الذهب من السلع التى تعد ملاذا آمنا لكثير من المستثمرين حينما تتعرض الأسواق لتقلبات عنيفة. وهو أيضا من السلع التى تتحكم فى أسعارها تشابكات شديدة التعقيد، فمثلا حينما تضرب أزمة عالمية أسواق المال والعقارات وعددا كبيرا من المؤسسات المالية كما حدث فى أزمة عام 2008 فإن عددا من المحافظ والمدخرات تجد طريقها سريعا إلى أسواق الذهب، لكن سرعان ما تؤدى سياسات التيسير الكمى والكيفى وحوافز الإنقاذ الحكومية إلى زيادة المعروض النقدى فى الأسواق وخلق موجات تضخمية، فيظن البعض أن تلك الموجات هى إشارة شراء للمعدن الأصفر، لكن فى الواقع هى مؤشر بيعى لتوفير سيولة تصلح لإعادة التوجيه إلى سوق الأسهم التى أصبحت نسبيا أرخص. وكذلك فإن التعامل على الذهب بيعا وشراء يتطلب دراسة مستفيضة للأسواق، وقراءة واعية لاتجاهات الأسعار فى مختلف الآجال، بدءا بالأجل الطويل جدا الذى يمتد إلى زهاء قرن من الزمان.
•••
منذ بداية القرن الماضى وحتى انتهاء قاعدة الذهب مطلع السبعينات من القرن ذاته، كانت أسعار الذهب عالميا شبه مستقرة عند مستويات منخفضة للغاية تحت 50 دولارا للأونصة. ثم بعد أن أوقفت الولايات المتحدة بصورة منفردة قابلية تحويل العملة الورقية إلى وزنها المعلوم من الذهب، شهدت الأسعار اتجاها صاعدا لم يوقفه إلا الصدمة البترولية الأولى التى تسببت فى موجة تضخمية عنيفة. وبعد أن بلغت أسعار الذهب قمة تاريخية فى فبراير 1980 عند مستوى 2.076 دولار للأونصة، تراجعت الأسعار بشدة إلى ما دون 500 دولار منتصف الثمانينيات كرد فعل للسياسة النقدية الانكماشية للفيدرالى الأمريكى. واستمر الاتجاه الهابط فى أسعار الذهب حتى نهاية التسعينيات، عندما بدأ الاتجاه الصاعد يتشكل نحو قمة تاريخية جديدة فى فبراير 2012 حين بلغ سعر الأونصة 1916 دولارا وهو اليوم متداول حول 1800 دولار للأونصة.
وقد خطر لقيادات سوق المال المصرى قبل العام 2010 تدشين بورصة للعقود السلعية يكون من بين منتجاتها العقود المستقبلية وخيارات الذهب. كما فكرت بعض القيادات فى تدشين منتج جديد يصلح للتداول فى منصة بورصة الأوراق المالية الحاضرة لكنه يجتذب المستثمر الذى يفضل الذهب على غيره من الأدوات والمنتجات، وكان هذا المنتج المالى عبارة عن وثائق صناديق الذهب Gold Exchange Traded Fund. لكن ملف سوق المال شهد تراجعا كبيرا منذ ثورة 2011 وآن للدولة أن تعيره الاهتمام المطلوب، كى يتسنى جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية فى أوعية استثمارية ومنتجات مالية قادرة على تمويل أهداف التنمية المستدامة فى مصر باعتماد أقل على الديون وطباعة البنكنوت.
بورصة الذهب الحاضرة يمكن أن تكون قناة وطنية لتداول الذهب بجودة معيارية، وخلق نظام تسعير محلى للمعدن النفيس. البورصة يمكن أن توفر خزائن عالية الجودة لحفظ أرصدة الذهب موضع التداول، مع تسهيل تمويل مخزون الذهب فى مصر بأسعار دولية تنافسية. وإذا كانت مصر قد أعلنت عن إنشاء أول مصفاة للذهب بأراضيها بتكلفة استثمار تصل إلى نحو 100 مليون دولار، فإن دمغ الذهب قبل تصديره يوفر الكثير من الأموال، ويعزز من القيمة المضافة للمعدن النفيس، خاصة إذا كان تشغيل المصفاة اقتصاديا ولا يستهدف فقط ما يتم تعدينه وإعادة تدويره فى مصر بل يمتد لخدمة دول الجوار.
وإذا كانت صادرات مصر من الذهب الخام قد بلغت قيمتها نحو 2.9 مليار دولار عام 2020 (أى أكثر من الصادرات الزراعية البالغة 2.8 مليار دولار فقط!) فإن هذه التعاملات يمكن أن ترتفع بشكل كبير، لو أن هذا القدر من الذهب يتم تداوله بقيمة مضافة أكبر، ومن خلال بورصة سلعية تصلح منصة إقليمية متطورة لتداول عقود الذهب الحاضرة والآجلة ووثائق صناديقه. هذا الحجم الكبير من الذهب يضمن لبورصته السلعية حدا أدنى من السيولة والاستدامة.
بورصة الذهب الحاضرة يمكن أن توفر أشكالا متنوعة من العقود لتلبية احتياجات صناعة الذهب، منها على سبيل المثال: عقد محلى حاضر بالجنيه المصرى، عقد عالمى حاضر بالدولار الأمريكى للتسليم بالمناطق الحرة، عقود المبادلة، آليات إقراض الذهب.. على أن عمليات المقاصة والتسوية لا يفضل أن تنشأ فى شركة مستقلة حتى تتحقق لها اقتصاديات الحجم. ولذا يفضل أن تنشأ كجزء من البورصة خاصة لو تضمنت تلك البورصة مستقبلا عقودا للمشتقات، حيث إن إدارة المخاطر يقع عبؤها الأكبر على شركة التسوية التى تعمل كوسيط بين طرفى عمليات البيع والشراء Central Counter Party CCP.
وهناك عدد من التجارب الدولية التى حققت طفرة فى تداول الذهب بعد أن قدمت البنية الأساسية الداعمة لذلك، منها تركيا التى تستورد نحو 180 طنا من الذهب سنويا، وتحتل المركز الرابع عالميا فى استهلاك الذهب ممثلة نحو 6% من حجم الطلب العالمى. قدرت بعض الإحصاءات حجم الذهب الذى يملكه الأفراد فى تركيا بنحو 3500 طن! فهو سلعة وثيقة الصلة بثقافة وحضارة الأتراك، كما هى الحال فى مصر والهند ومعظم شعوب العالم القديم. تصنيع المشغولات الذهبية فى تركيا يعد رافدا هاما للصادرات المصنعة.
•••
حتى ثمانينيات القرن الماضى كان قطاع الذهب فى تركيا عالى التنظيم، ثم توالت عليه الإصلاحات التى منها تحرير تجارة الذهب اعتبارا من العام 1993، وقيام البنك المركزى بالسماح بدور أكبر لقوى السوق فى تجارة الذهب، والقيام بتأسيس بورصة إسطنبول للذهب عام 1995 لتوفير آلية استكشافية للأسعار، والتأكد من جودة المنتج. فى تلك البورصة تم تداول عقود الذهب الحاضرة، ثم تم استحداث عقود الذهب المستقبلية وعقود الخيارات فى مرحلة تالية.
نجحت بورصة إسطنبول للذهب فى توفير أسعار معيارية للذهب فى البلاد، وخلق رابط بين سوق المعادن النفيسة من جهة وأسواق المال من جهة أخرى، وساعد فى بلورة سوق المال التركية كمركز مالى إقليمى. وقد ساعدت تلك الخطوات الحكومة التركية على خلق بيئة تسمح بدمج أكبر لأرصدة الذهب فى النظام المالى والنقدى، وتم السماح للبنوك التجارية بالاحتفاظ بجانب من احتياطيها النقدى إما فى صورة عملات أجنبية أو ذهب، الأمر الذى ساعد على استقرار النظام المصرفى، بعدما قلل من الاعتماد فى احتياطيه على الليرة التركية.
بنهاية العام 2013 بلغت أرصدة الذهب بالبنوك التجارية فى تركيا نحو 250 طنا بقيمة 10.4 مليار دولار، علما بأن جانبا من تلك الأرصدة (نحو 40 طنا) كان عبارة عن تحول جانب من حسابات الأفراد من الليرة والعملات الأجنبية إلى حسابات الذهب. وفى نفس العام تم دمج بورصة الذهب فى بورصة الأوراق المالية والمشتقات لخلق كيان جديد هو بورصة اسطنبول Borsa Istanbul BIST التى أصبحت منفذا لاستيراد الذهب غير خاضع للضرائب.
أما سنغافورة فهى من دول آسيا التى ترتبط ثقافة شعبها بالذهب ارتباطا وثيقا، وقد كانت مركزا مهما لتجارة الذهب فى الشرق الأقصى حتى عام 1993 عندما تم تطبيق نظام ضريبى غير مشجع. حديثا دشنت سنغافورة عددا من المبادرات لاستعادة ريادتها الإقليمية فى سوق تداول الذهب، مرتكزة على الطلب المتزايد عليه فى دول شرق وجنوب آسيا. فمنذ أكتوبر 2012 قدمت نظاما ضريبيا تنافسيا يعفى المعدن الأصفر من ضريبة السلع والخدمات. كما أقدمت على إلغاء أى متطلبات لترخيص استيراد وتصدير الذهب عبر أراضيها.
كذلك أقامت سنغافورة بنية أساسية متطورة لتصنيع السبائك ومصافى الذهب، وكل ما يتصل بعمليات التخزين والتجارة لتصبح مركزا إقليميا لتجارة الذهب. وقد استطاعت جذب أحد أشهر المصافى ذات المنشأ السويسرى «ميتالور» لإقامة مصفاة عالمية المستوى على أرض سنغافورة بطاقة سنوية تبلغ 150 طنا، وتعتمد أساسا على تدوير خردة الذهب من كبار الصاغة فى المنطقة كلها. أقامت سنغافورة خزينة ذهب مؤمنة على مساحة 22 ألف متر مربع بجوار مطار شانغى سنغافورة الدولى، فضلا عن قيام بنوك استثمار عالمية مثل جى بى مورجان، ودويتش بنك، ويو بى إس... وغيرها بإنشاء خزائن للذهب فى سنغافورة.
بورصة سنغافورة تقدم عقودا للذهب للتسوية المادية (أى تسليم الذهب مقابل العقود وليس قيمة الذهب فقط). أول تلك العقود صدر فى سبتمبر عام 2014 فى محاولة لتقديم سعر معيارى لواحد كيلو جرام من أعواد الذهب فى إقليم آسيا. وعلى الرغم من ذلك تواجه سنغافورة منافسة حادة من الصين، التى تعد المنتج والمستهلك الأكبر للذهب فى العالم. وتتمتع الصين بميزة تنافسية كبيرة تتمثل فى سوق محلية لا نظير لها فى الاتساع وحجم الطلب، كما تمتلك قبضة حاسمة على سوق الذهب ليتدفق الطلب بقوة التنظيم عبر بورصة شنغهاى. وبينما يلعب الأفراد دورا مهما فى بورصة شنغهاى فإن بورصة سنغافورة تعتمد على تداول المؤسسات بشكل كبير.