شمعٌ أحمر - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:20 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شمعٌ أحمر

نشر فى : الجمعة 17 فبراير 2017 - 10:00 م | آخر تحديث : الجمعة 17 فبراير 2017 - 10:00 م
على الأبواب الخشبية الدافئة فى عمارة قديمة بوسط المدينة، توجد قِطعٌ مِن الشاش الأبيض مُثبَتة بشريطٍ لاصق بنى اللون، وفيها بقعٌ حمراء؛ قبيحة جدا ورخيصة جدا، لا تليق بالمكان ولا بالموقف.

الشاشُ والبقعُ والشريطُ اللاصق مُكوِنات ما يُقال له: «الشمع الأحمر»، مُصطلحٌ ذو تاريخ مُوغِل فى القِدَم، يُسمَى أيضا «شمع الختم» فقد جرت العادة أن تُغلَق به المظاريفُ والوثائقُ والرسائلُ التى تحمل قدرا مِن الأهمية والسرِية. فى زمنٍ غابر، كانت الخطاباتُ المُتبادَلة بين الملوك والقياصرة تتلقى قدرا مَحسوبا مِن الشمع المُذاب، وقبل أن يجف الشمعُ عليها ويتجمَد، يُختَمُ بخِتم خاص، يدلُ على راسلها عظيم الشأن؛ ضمانا لبقائها مَحمية، مَصونة مِن فضول الآخرين وعيونهم ومؤامراتهم.

لا تعتمد قيمةُ الشمع الأحمر على صلابته أو صعوبة فتح ما يغلقه، إنما على السهولة. سهولة أن يتفتت وينكسر فيعرف المعنيون بالأمر أن ثمَة مَن عَبَثَ بالسرِ ومَن انتهك المَستورَ. هناك وصفات كيميائية مُتَنوِعة لصناعة الشمع الأحمر، فهو ليس كما الشمع العادى، بل تدخل فى مُكوناتِه أملاحٌ وربما أحماضٌ وأصماغٌ أيضا، إضافة إلى صبغة تعطيه اللون المميز؛ لون الانتباه والخطر.

***

لا يقتصر استخدام الشمع الأحمر على مُخاطبات يُرجَى وصولُها آمنة سالمة، بل أحيانا ما يتجاوز أغراضَ السلامة والأمان إلى أغراضِ القسر والإجبار، وفى أحيانٍ أخرى يُحَقِق أغراضَ المنعِ والقمعِ والتكدير. فى بعض الأمكنة، تقوم السُلطات المُختصَة بتشميع عدادات الكهرباء والمياه مثلا أو بتشميع أبواب ملكيات لحظر التصرُف فيها، ربما تقوم أيضا بتشميع مَطاعِم أو مَتاجرٍ أو غيرها؛ حيث يحتمل وجود أدوات جريمة. «شَمَع المَحَلَ» جُملة سمعناها فى أفلام عربية كثيرة جدا، منها المضحك ومنها المبكى، أما ما جرى على الأرض منذ أيام فقاسٍ وكئيب.

ظهر الشمعُ الأحمر فى مَوضعٍ مَشهود؛ يعالج آثار الجرائم المقيتة، يداوى الجروح ويُخفِف الندوبَ، ويطرح بدلا منها أملا وصلابة. ظهر ليغلق ملاذ من نالت منهم عوادى المستبد وأصابهم فساده وأوجعتهم انتهاكاته.

فى هذه اللحظات يمثل الشمع الأحمر على باب النديم خجلانا، أظنه لا يفهم ما جاء به إلى هذا المكان وما جعله يحصد حنقا هائلا وغضبا واسعا مِن هنا وهناك. لا يدرك مَن خرج من مكتبه وبذل الجهد فى جمع قواته وموظفيه واستدعاء شجاعته وصلفه كى يلصق الشمع بالأبواب، أن للنديم رحلة طويلة أطول بكثير من عمره الذى يربو على ربع قرن، رحلة أطول من الزمن الفعلى الذى انقضى منذ قام على أكتاف مؤسسيه؛ رحلة ممتدة بامتداد أوجاع المظلومين وآهاتهم، ومستمرة ما استمر الجلادون فى إفساد الحياة. الذهن الذى تصور أن الشمع الأحمر حلٌ سهلٌ مضمون لإسكات صوت العدالة والإنصاف، لهو ذهن تكبله أقفال وجنازير، فقد أغفل الصدى، أغفل أن المكان فيه روح أصحابه، ولا يمكن أن تمس أطنانٌ من الشمع الأحمر أرواحَ البشر.

***

عملت بالمكان سنوات طويلة، وأدرك جيدا كما يدرك مَن اقتربوا منه أنه لا يمكن أن ينتهى أو يموت، مَوطِن النديم فى إرادة مَن بنوه بدأب وصبر وإصرار، وفى قلوب الناس، ونفوس الناجين من البطش والقهر، النفوس التى جُبِرَت هناك والتأمت انكساراتها واستعادت إيمانها بالحياة.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات