منذ يومين تقريبًا وردَ خبرٌ عن استخراج جثة رجل مات ودُفِنَ منذ ما يزيد على الشهرين. لم يكن هذا الإجراء بأمر مِن النيابة؛ لا لشكٍّ فى موت جنائيّ مثلا أو لظهور أدلة تشى بجريمة، بل قيل إن ابن المتوفي؛ وهو رجل بالغ فى أواسط العمر، استخرج الجثة على هدى رؤيا جماعية لأهالى قريته.
ظهر أبوه فى الرؤيا سائرًا بين حدائق واسعة واعتقد الناس أنه بهذا قد أصبح وليًا. نبش الابنُ القبرَ ومعه الأهالى وخرجت الجثة. قالوا إنها سليمة مُكتملة، لم تتحلّل أو تتعفّن ولا مسّها دودُ الأرض. حملوها حملا إلى المنزل وسط التكبيرات والمباركات والابتهالات، حيث يمكن لهم أن يعيدوا دفنها فى غرفة خاصة ويبنوا حولها ضريحًا، فيزوره الناس مِن بعد، ويُودِعوه بؤسَهم وشقاءَهم ويطلبون مِن ساكنه؛ صاحب المعجزة الكبرى، أن يوليهم نظرة عطف ورعاية.
يلجأ الناسُ مع تزايُد الضغوطِ إلى الخرافات، يرون أشياءً غير موجودة ويسمعون أصواتًا ونداءات غير مفهومة، ويترجمون هذا وذاك إلى خوارق ينشغلون بها، ويصنعون منها فى نفوسهم أوهامًا وخيالات، عساها تنقذهم مما هُم فيه.
النزوع إلى الإغراق فى الغيبيات ليس بدعة مُستحدَثة ولا أمرًا فريدًا نمتاز به على غيرنا، ففى أزمنة الانحدار وغيابِ العقلِ وسيادةِ العبثِ على المنطقِ والاتزانِ، يصدّق الناسُ أى شيء ويوافقون على أى شيء ويتبعون ما لا يُشفى ولا يُغنى مِن جوع وفقر ومرض. على مدار التاريخ بنى الناس قصصًا وحكايات فاقت فى غرابتها ما جاء فى ألف ليلة وليلة، لكنها للأسف لم تنتشلهم مِن عثرة ولا جعلتهم يتقدمون قيد أُنملة، بل أورثتهم ضعفًا فوق الضعف وغيابًا فوق الغياب، وكرَّست سُلطة المُستبد الذى يؤلمه إعمال الفكر وتؤذيه اليقظة.
***
فى صفحة رئيسة بإحدى الجرائد اليومية ذات التوزيع الجيد والجمهور الواسع، جاء الخبر مُكلَّلا بصورة. احتل مساحة كبيرة تعكس أهمية لم تبد لى مفهومة، إلا إذا اعتمدت نظرية المؤامرة ولست مِن مُحبيها، وآمنت بسوء القصد.
فى الأحوال العادية قد يكون المكان المناسب لهذا النوع مِن الأخبار المُتعلِّقة بالجنّ والعفاريت والجثث السليمة التى تكاد تنطق مِن جديد وتدبّ على الأرض، صفحة فيها عناوين خفيفة ولطيفة أو ربما عجيبة مِن قبيل صدق أو لا تصدق، أما أن يجاور أخبارًا سياسية واجتماعية على درجة مِن الأهمية والجدية فأمر لا يبدو مقبولا، إلا إذا كان الغرض مِن ورائه مَزيدًا مِن ترويج الخرافة وإِحكام شِباك الجهلِ بما يُفاقِم علّتنا ويؤكدها.
صورة المشيعين وإن افترض القارئ حُسْن النوايا، تظل مُوجِعةً، والمكان الذى شهد واقعة إخراج الجثة على دقات الطبول ونغمات المزمار البلديّ، يظلّ شاهدًا أيضًا على فقر الحال والإهمال وسوء الإدارة، وإذا كان ذوو المتوفى هم مِن أصحاب الطُرق الصوفية ومشايخها، ومِن خلفية ثقافية تلوذ فى العادة بوسائل تتجنب المواجهة والصراعات المباشرة، وتفضل الهرب إلى ما هو غير مادى وغير واقعى عند الحاجة، فلا حُجة ولا عذر لما ذكر الخبر حول مأمور القسم ورئيس المباحث. كلاهما شارك فى عملية تزييف وعى الناس ورسَّخ فى الأذهان الخرافة وعبث بأسانيد العلم ولو كان هناك عاقل لأضاف للعقل والعلم ما جاء به الدين.
على كل حال لا عجب فى أن يستخدم أرباب المصلحة ما أوتوا من أدوات كى يستبقوا الناس فى موضع الاستغلال، وفى موطن المغلوب على أمره، الناكص عن إدراك مأساته، الساعى إلى حلول ليست بحلول. قبرٌ وضريحٌ أو تجلٍ وتَجَسُّدٌ أو فلكٌ وطالعٌ ونجوم، كلها حيل العاجزِ وكلها بحار من الرمال تبتلع السائرين فيها إن آجلا أو عاجلا.
***
أحيانًا ما تأتى لحظة استنارة استثنائية الطابع، فيفيق الناس من الغفوة والغفلة وينفضون أسباب العلّة ويستديرون ليردوا الصفعة وينتزعوا أبصارهم وبصائرهم ومصائرهم أيضًا مِمَن اغتصبها، وفى انتظار لحظة الاستنارة تلك، لا يبقى إلا السعى نحو المعرفة والحفاظ على بصيص مِن العقل.