حَظرُنا وحَظرُهُم - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:07 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حَظرُنا وحَظرُهُم

نشر فى : الجمعة 17 أبريل 2020 - 9:40 م | آخر تحديث : الجمعة 17 أبريل 2020 - 9:40 م

خلال الأيامِ المَاضية؛ تحوَّلت نسبةٌ لا بأس بها مِن الناس إلى مُمارسة أنشطةٍ وأفعال لم تكُن في الحُسبان، ولا خَطرَت يومًا على بال؛ وإن خَطَرَت فمزحةٌ عابرة أو أمنيةٌ مُؤجلة إلى حين مَيسرة. هناك مَن راح يتفنَّن في إعداد ما لذَّ وطاب ولم يكُن له في الطهو مِن قَبل باع، ومَن اكتشف قُدرتَه الكامنةَ على القراءةِ المُتأنية ولم يكُن له صبرٌ على إنهاءِ كِتاب، ومَن خرج في نزهات طويلة على الأقدام، ومَن خصَّص في طقوسِ يومِه ساعةً أو اثنتين للسَير حول حديقةٍ أو بمُحاذاة سور مُمتَد يُشعِره بالجديَّةِ والالتزام.
***
لم تتوافر لهذه السلوكيات إرادةُ الفِعل الحرَّةِ المُستقِلَّة، لكنه الاحتياج. السأمُ والمَللُ والدقائقُ المُتباطِئةُ وغيابُ الصُّحبةِ التي تسرق الشُعورَ بذنبِ انعدامِ الإنجاز. البراحُ الذي تَخَلَّق في الصدورِ وأفسحَ مكانًا للتفكيرِ، والقيد الذي ولَّدته الجُدرانُ وباعدت به بين الناس، والطاقةُ التي ألحَّت على الخروج مِن مَحبسها بأية صورة مِن الصور المَقبولة؛ كُلُّها في نهاية الأمر عوامل قاهرة، أفرزت نمطًا مُختلفًا مِن أنماطِ المَعيِشة.
***
لم يكُن هذا النمَطُ المُستَجَد نابعًا مِن رغبةٍ في تغيير وَضعٍ مُزمِن فاتر؛ لا يُرضي أصحابَه ولا يشبعهم، بل مِن تبِعاتِ الحَظر المَفروض على أنشطةٍ أخرى؛ احتلَّت على مدار العمر مساحاتِ الفراغِ وملأتها؛ رغم أنها هي ذاتها تتسِم بالخَواء. ربما كانت جلساتُ المقاهي هي الأكثر قُدرة على جَذب فئاتٍ مُتعدِّدة مِن الناس. ساعات لا تنتهي تنقضي في نَفث الدُّخان وإخراج مَكنونات الصدور، وامتصاص حَجَرٍ تلو آخر، نعيًا لحَظٍّ عَثِر أو بحثًا عن مُشاركةٍ تُخفِّف مِن ثِقَل الهُموم لحظيًا؛ لكنها لا تزيلها. أغلقَت المقاهي أبوابَها ووَجد بعضُ روادِها عَوضًا في مُسامَرات عائلية بدا أنها قد انقرضت مع الزمَن. مِن هؤلاء مَن أعاد التَعرُّف على أفرادِ أسرته، وكأنه عائد في التوِّ من غَيبَة السَّفر.
***
مع توالي الأيامِ وخُضوع الناسِ لما فرضَت الظروفُ بدافع الخَوفِ والحَذر؛ رحت أسألُ نفسي إن كنا سنَستمرِئ النومَ المُبكر، ونَستطِيب صَمتَ الشوارعِ أوَّل الليل، ومَرأى المَحال المُغلقة في نهايةِ الأُسبوع؛ مِثلما هي الحال بغير أوبئة وجوائح في كَثير الدُّول الأوروبية، وفي مناطق كثيرة مِن العالم. قلت لما لا؛ وقد اعتدنا على تطويع أنفُسِنا بمَهارةٍ فائقةٍ على البلايا كُلِّها والمُنغِّصات؟ لما لا وحَظرُنا والحقُّ يُقال؛ يُقارب الأوضاعَ الطَبيعيةَ في عديد البلدان، وطبيعتُنا التي دَرَجنا عليها؛ تُعادل في هذه البلدان بالمقاييس المُعتَمَدة كلِّها ما يُمكِن وصفُه بالفوضى العارمة؛ إذ لا مواعيد في عرفنا لإغلاق المتاجر والأسواق، ولا تَوقيتات تُرى فيها الشوارعُ هادئةً خاليةً مِن العابرين. لا راحة ولا هدوء ولو لغَمضَةِ عَين.
***
فكَّرت إن كانت الأمُور ستتخذ مَجراها التقليديّ؛ فيتوَلَّد اعتيادٌ جَمعيٌّ على المَوقِف الجديد شأنه شأن كثير الخُطوب، ويتولَّى الناسُ حَظرَ أنفسِهم في العطلةِ الأسبوعية ويمتنعون أثناءها عن أنشطةِ التبَضُّع والشراء؛ دون حَظرٍ جَبريٍّ تفرضُه السُلطاتُ؛ لكني ما إن طرقت شارعًا رئيسًا عرف بازدحامه في السابقِ؛ كَونه سوقًا لمُختلَف البضائعِ الاستهلاكية والترفيهية في آن؛ حتى أيقنت أن الحَظرَ لن يدوم طويلًا ولن يفرض وجودَه بسهولة؛ خاصةً وقد اقترب شهرُ رَمضان وازدانت الأرصفةُ بروحِه، واحتلَّت الفوانيس ما أمكنَ مِن زوايا وأركان، وظهر الياميش سائبًا ومُعبأ مِن مُختلَف الأنواعِ والمَقامَات، وعَلَت مِن بعضِ مُكبِّرات الصَّوت هنا وهناك الأغنياتُ المُعتادةُ وفي مُقدمتها العلامة الخالدة التي لا تتوارى مع مُرور الزَّمن: أهلًا رمضان.
***
يُقال ضِمن المأثوراتِ الأصيلةِ، الصادقةِ إلى حَدٍّ بعيد؛ إن الطَبعَ يَغلبُ التَطَبُّع، وطَبعنا الراسخُ في مُجتمع يتناقل أفراده الأخبارَ مع عباراتِ السَّلام والتحية، ويتبادلون المَعلومات في وسائل المواصلات والشوارع دون سابق مَعرفَة؛ أن نسعى للاختلاط ما أمكَن، وأن نتواصلَ بالكلمة والإشارة والغَمزة؛ ونُضيف لها ما زاد واستُحدِثَ مِن وَسائل التواصُل ما دام في الإمكان.
قد تدفع المَخاوفُ الناسَ إلى انتهاجِ مَسلكٍ بعينِه وَقتًا يَقصُر أو يَمتَد، لكنها لا تنجح دومًا في إرسائه وغَرسَ جُذورِه في الأرض.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات