المواجهات العنيفة فى غزة لا تهدد إسرائيل وكذلك الفكرة التى أدت إلى سلسلة التظاهرات. وتشبه الردود على الوحشية ــ الإسرائيلية فى يوم النكبة الردود فى تركيا على استخدام مصطلح «إبادة شعب» بما له صلة بمذبحة الأرمن. فى الحالتين «لم يحدث ذلك مطلقا». ولمنع سوء الفهم فى إسرائيل، كما فى تركيا، جرى تشريع قانون خاص هدفه إخفاء جوهر وجود «الحدث»، وذلك لمحوه من الذاكرة الجماعية اليهودية، ومعاقبة كل من يحمل إسرائيل أى مسئولية عن طرد آلاف الفلسطينيين خلال حرب 1948.
لا يُسمح للأساتذة بتدريس كتب تفسر طبيعة النكبة، ومن يفعل ذلك يخاطر بالتعرض لتأنيب. والأخطر من ذلك أنه لا يستطيع الطلاب التمييز بين نكبة وانتفاضة، وأحيانا كثيرة يعتقدون أن مصطلح النكبة معناه يوم الاستقلال الفلسطينى. إن نجاح المسعى الإسرائيلى فى طمس النكبة مثير للإعجاب بصورة خاصة عندما يتضح أنه حتى الشباب العرب لا يعرفون الظروف التاريخية والسياسية والعسكرية التى تسببت فى النكبة. قال لى طالب عربى: «إنه يوم خاص لنا نحيى فيه مقاومة الاحتلال الإسرائيلى منذ 1967». طالب آخر اختلط عليه يوم الأرض والنكبة قال: «إنه اليوم الذى سيطرت فيه إسرائيل على أراضى العرب فى الجليل». الجهل وسط الطلاب اليهود ليس أكبر كثيرا فحسب، بل يُعتبر علامة احترام ودليل ولاء للوطن.
إسرائيل لم تنضج بعد لمواجهة ماضيها. الدولة مستعدة لمواجهة أى سيناريو فى المواجهة مع إيران وحزب الله أو متظاهرين فى غزة، وتعتبر النكبة عدوا أخطر كثيرا. المتظاهرون يمكن قتلهم، لكن لا يمكن محاربة النكبة بالطائرات والدبابات، والقناصة لا يستطيعون تحييدها، وهى ليست دولة معادية يمكن أن تُفرض عليها عقوبات. النكبة مثل تنين يخرج مرة واحدة فى السنة بحثا عن فريسة، صحيح أنه يجرى إحياؤها فى موعد ثابت، لكنها هى الماضى والحاضر المستمر لإسرائيل والفلسطينيين، لذا، من المستحيل إزالتها من التقويم أو رفع علامة الانتصار بعد مرور موعدها.
ما الذى يجعل الإسرائيليين يرتعدون كل عام لدى استعدادهم ليوم النكبة؟ ليس الضمير بالتأكيد. منذ زمن طويل لم يعد الإسرائيليون يتأثرون بمقتل الفلسطينيين فى المناطق [المحتلة]، وبالأحرى عندما يتعلق الأمر بفلسطينيين «غادورا» قبل 70 عاما. هل السبب ــ ربما ــ هو عدم الارتياح البسيط من اهتمام الفلسطينيين فى إسرائيل وفى المناطق فجأة بهويتهم الوطنية، وتجرُّئهم للحظة على زعزعة فوقية السردية اليهودية التقليدية لإسرائيل؟ أيضا ليس هذا هو السبب. إن أحد أسس الوطنية الإسرائيلية هو النظرة إلى العربى الإسرائيلى باعتباره عدوا: مفهوما الولاء « للدولة» و«العرب» ليسا مرتبطين فى جوهر واحد فى ذهن المواطن الوطنى الإسرائيلى.
يبدو أن الخوف من النكبة ناجم عن عدم القدرة على حل الصراع الفكرى بين التوق إلى دولة قومية يهودية خالصة لا علاقة لها بقوميات أُخرى، وبصورة خاصة عربية، وبين الإدراك أن مثل هذه الدولة غير موجود فى الواقع ولا يمكن أن يوجد.
هناك من يريد حل هذا التعارض من خلال ضربة فأس: أفيجدور ليبرمان يحلم بقطع الأجزاء العربية من إسرائيل ورميها إلى أراضى السلطة الفلسطينية؛ وزارة التعليم تبنى جدارا سميكا من كتب التعليم فى محاولة منها لمنع تسلل التأريخ العربى إلى الوعى الإسرائيلى؛ الكنيست يسن قوانين قومية تتعلق بالولاء، على أنواعها، هدفها استكمال الغيتو اليهودى القومى. لكن النكبة ترفع رأسها فى كل مرة من جديد. وأخيرا، تسمح الأحداث فى غزة بتحويل النكبة إلى شىء ملموس وحى، له وجه وجسد، ويمكن إطلاق الرصاص عليه وقتله. للنكبة «جنود» مستعدون للموت من أجلها، وللإسرائيليين هدف لا يحتاج إلى تبريرات وتفسيرات، وهو تصفية النكبة.
تسفى برئيل
محلل سياسى
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية