يقول الشاعر الأندلسيّ: فَجَـائِـعُ الـدهرِ أَنواعٌ مُنَوَّعَــةٌ .. ولِـلزَّمـان مَسَرّاتٌ وأَحـزانُ. الأحزانُ مَعروفةٌ مُجرَّبةٌ وما أوفرها، أما المَسرَّاتُ فتبقى في مَرتبة الأماني والغايات. المَسرَّةُ نقيضُ الهمّ والأسى، والعدل أن يجد البشر النقيضين على حدِّ سواء، إذا لم تكُن المَسرَّةُ الخالصةُ في الإمكان. تُختَتَم ترنيمةُ المَجد لله في الأعالي بعبارة "وبالناس المَسَرَّة"؛ المُبتغى والقصد؛ سلامٌ على الأرض وسعادةٌ لأهلها.
***
أُطلِق على الهاتف في وقتٍ سابق اسم "المِسَرّة" بكسر الميم؛ ربما لأن الناس اعتادوا أن يُسرّوا عبره بحكاياتهم، وأن يدلوا بأخبارِهم، بل وأحيانًا يفشون فيه عديدَ أسرارِهم. لاحقًا؛ حَلَّ التليفون مَحَلَّ المِسرَّة على الألسنة لتسهيل النطق، ثم توارى التليفون لصالح المحمول، وتبدَّلت أشكالُ هذا وذاك، كما لم تعد للجهاز التقليديّ ذي القرص المُستدير؛ مَكانته الأثيرةُ التي احتلَّها لعقود. على كل حال، غدا رنين الهاتف في الآونة الأخيرة نذيرًا يخشاه الحاضرون. أعرف مِن الأصدقاء مَن صار ينتفض كُلَّما سمع جرسَ الهاتف الأرضيّ أو نغمةَ المَحمول؛ لا انتفاضة المَلهوف إلى نبأ سار، بل جزع المُتَوَجّس مِن ألمٍ وشيك.
***
المَسَرَّة بفتح الميم في قواميس اللغة العربية هي؛ أَطراف الرياحين، وفي مُعجَم المعاني الجامع هي الفرح والبهجة؛ ويقال مثلًا سَرَّني لقاء فلانٌ مَسَرَّةً كبيرة؛ أي أبهجني، والجَمع مِن المُفردة مُستخدَم ومَألوف؛ فكثيرًا ما حملت دعوات الزفاف والمناسبات السعيدة تلك العبارة الشهيرة: "العاقبةُ عندكم في المَسرَّات"، وبها يتمنّى صاحبُ الدعوةِ أن ينالَ الآخرون بدورهم نصيبًا مِن السعادة.
***
تناقَصت المَسرَّاتُ في أيامنا حتى كادت تتلاشى، وبهتت قابليتُنا لاستشعار البهجة وتقلَّصَت لحدودٍ دنيا؛ فلم تعد الأشياءُ البسيطةُ كافيةً لجبر الخاطر، أو لإدخال السرور على النفس؛ لفرطِ ما تراكَم فيها مِن رواسب، لكن الأمرَ لا يقف عند هذا الحد؛ فقد تراجعت حساسيتنا لا إزاء المُفرحات فقط، بل والمُبكيات أيضًا. تمُر الأخبار سريعةً مُتعاقبة؛ تحملُ ما تحمل مِن بُؤسٍ غامر أو مِن بَصيصِ الأمل، لكنها لا تترك في هذه الحال أو تلك بصمةً عميقة؛ إذ صارت مشاعرنا إجمالًا مَضغوطة، مَدهوسة، وغائرة؛ لا مُتَّسع فيها لأثرٍ جديدٍ أو بصمة.
***
لم تعد كلمةُ "السرور" مُستخدمةً بوفرة. أذكر في أعوامٍ ولَت، أن الكلمةَ كانت شائعةً على صفحات الكُتُب المدرسية؛ أمل تلعب في سرور وعمر يضحك في سرور؛ ربما لا أذكر العباراتِ بدقَّة، لكنها على ما أظن لم تخلُ مِن مَسرَّة.
***
ربما لم يعرف الشاعر الكبير نجيب سرور مِن لقبه سوى شذرات عابرة خلال أعوام قصيرة؛ كان نجيبًا ولا شك، لكنه لم يجد في حياته ما يجلب السرور، ولم تزره من مسرات العمر سوى بهجة قرض الأبيات، ولذة الانهماك في القصيدة. على كل حال لم يعد اسم "سرور" من الأسماء المنتشرة، ولا بقي مطروحًا للتسجيل في شهادة ميلاد جديدة؛ فالذائقة قد اختلفت وتغيرت؛ والحال الراهنة لم يعد لها نصيب من المعنى الذي تحمله الكلمة.
***
مِن دواعي السرور، وبكُلّ سرور ومَمنونية؛ مُجاملات حَفَلت بها بلاغتُنا المَهدورة؛ يجيب بها واحدٌ عن طلبٍ أو سؤال، وقد يحني الرأس قليلًا في تواضع كأنه يستحي من السائل ويتحرج لحرجه. قد نسارع الآن إلى إجابة طلب، ونقضي أمرًا لقريب أو غريب؛ لكن الوقتَ لم يعد يتسع لمثل هذا الاحتفاء بحاجات الآخرين؛ لا طاقة في الصدر لكلمات الترحيب، ولا مُتَّسع للإسهاب.
***
"هات السيف يا مسرور". مَسرور هو قاطع الرؤوس في الليالي الألف، يستدعيه شهريار ليلة بعد ليلة، وكلما هَمَّ السياف بالاستجابة؛ جاء صوت الحكاءة المتمرسة في توسلٍ مشفوعٍ بالدلال والاستكانة: "سيبني لبكره الله يخليك". لا يعرف أحد إن كان السياف مسرورًا بالفعل، ولا يدري المشاهدون والحال كهذا؛ بواعث غبطته وسروره، فيما قتل النساء اللاتي يملُّ مِن حكاياتهن ربيبه؛ عمله الوحيد. مَسرور الأصليّ هو خادم هارون الرشيد؛ قربه منه ووظفه للقضاء على أعدائه، وكان أن طبقت شهرته الآفاق كأداة مضمونة للفتك. مِهنة مسرور كما يذكر الباحثون، ظلت متوارثة أبًا عن جَد لعهود طويلة؛ تنفيذ الأمر الصادر وإحضار الرأس المطلوب، بغير تردد أو تفكير. المسرورن في تاريخنا كثر، وجَزُّ الأعناقِ عرف.
***
حين تلين الملامِح وتطيبُ، يصفُها الأدباءُ بالقولةِ المُعتادة: "انفرجت الأسارير". الزائر لمُدننا وشوارعنا يرى العبوسَ والتقطيب؛ مُرتادوها ما بين شاردٍ وكسير، والملامح مَضمومة، فيما النظرات غائمةٌ، جامدةٌ، كئيبة، لا روح فيها ولا حياة.
***
انقسم الناسُ ما بين مَسرور بسيفِه، ومَغبونٍ بعجزه؛، والمَسَرَّةُ حتمًا تأتي،ولا أوقع مِن تلك الأبيات التي ضمَّنها أبو البقاء الرندي قصيدته:
هِيَ الأُمُورُ كَمَا شَاهَدْتَــهَا دُوَلٌ .. مَنْ سَرَّهُ زَمَـــنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ.
يَا غَافِلًا وَلَهُ فِي الدَّهْرِ مَوْعِظَةٌ .. إنْ كُنْتَ فِي سِنَةٍ فَالدَّهْرُ يَقْظَانُ.