هناك أفكار كثيرة يمكن استخلاصها من الحوار مع رموز المجتمع السودانى، الذين يعكسون ألوان الطيف الثقافى والسياسى والاجتماعى فى بلد يقف على اعتاب مخاطر عديدة. ثلاثة أيام مكثفة فى الخرطوم، قضاها وفد المجتمع المدنى المصرى برئاسة الوزير محمد العرابى، التقى خلالها بمختلف القوى والتيارات السياسية، وانتهى بلقاء الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السودانى. لم يلتق الوفد المصرى أيا من الشخصيات السودانية إلا واستمع إلى عتاب لطيف حول ابتعاد المصريين عن الشأن السودانى، وغياب زياراتهم المكثفة، ويمتد العتاب إلى شعور السودانيين بأنهم يعرفون المصريين، أكثر ما نعرف نحن عنهم، ويتمنون أن يجدوا فنونهم وثقافاتهم فى الإعلام المصرى، بل إن بعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك متطلعا إلى دور مصرى فى الأزمة السودانية. هناك بالتأكيد من السودانيين من يرتبط وجدانيا وانسانيا بمصر، ويتطلع دائما إلى علاقات وثيقة معها، وهناك من يحمل اتجاهات سلبية تجاه مصر، تأثرا وامتدادا لحكم جبهة الإنقاذ، الذى لم يُخرب فقط السودان من الداخل، بل أساء أيضا إلى العلاقات المصرية السودانية.
تقود المشاهدات والحوارات فى السودان إلى إدراك عمق الموقف المصرى تجاه ما يحدث فى السودان، فهو من ناحية لا يسير فى ركاب تحركات دولية وإقليمية لم تحقق نجاحا فى التعامل مع واقع معقد، خاصة منذ أكتوبر الماضى، وهو يدرك من ناحية أخرى أن السودان بلد عميق فى خبرته التاريخية، متنوع فى تركيبته الإنسانية، له خصوصيته، ولا يمكن فرض نموذج بعينه عليه، كما أن مصر لا تتدخل فى شئونه، أو شئون أى دولة أخرى.
الموقف المصرى شديد التوازن، يعى خطواته بدقة، ويمتلك الخبرات المؤسسية والفنية التى ترسم ملامح تحركاته. وإذا كانت مصر لا تنحاز لطرف على حساب آخر، وتنظر بعين الاعتبار إلى تعدد وتنوع التركيبة الاجتماعية والسياسية السودانية، فإنها تتجه إلى مساندة الدولة السودانية، حفاظا عليها، وهو توجه عام تحرص عليه الدولة المصرية فى السياق العربى المضطرب، كما تقدم الدعم إلى الشعب السودانى من خلال مشروعات الربط الكهربائى، والبنية الأساسية والطاقة، والمنح الدراسية، والدورات التدريبية، والخدمات الصحية، والسعى إلى تطوير ميناء أسوان حلفا، والسكك الحديدية، وبحث آفاق تطوير العلاقات الزراعية، والإنتاج الحيوانى، وغيرها، بما يسهم فى تحقيق رفاهية الشعبين المصرى والسودانى.
وأظن أن تعدد وتنوع المبادرات الاقتصادية والتنموية المصرية تجاه السودان ينفى رأى بعض الاتجاهات فى الخرطوم أن مصر تنظر إلى السودان من زاوية أمنية فقط، أو تعتبر العلاقات معها ملفا أمنيا. بالتأكيد لا ينفصل الأمن القومى المصرى عن الأمن القومى السودانى، واستقرار مصر وثيق الصلة باستقرار السودان، هذه هى حقائق الجغرافيا والتاريخ والسياسة، ولكن هذا لا يعنى أن قضايا التنمية والطاقة والمياه والغذاء والفن والتعليم والصحة غائبة عن العلاقات بين الدولتين.
الدرس الذى استخلصناه بعد حوارات مكثفة على مدى ثلاثة أيام، أن السودان يحتاج إلى توافق بين التيارات والقوى السياسية، وتوحيد القوى العسكرية تحت مظلة الجيش النظامى، وممارسة التنازلات المتبادلة من جانب كل الأطراف، والتحلى بالرغبة فى الوصول إلى منطقة وسط يلتقى عندها الفرقاء جميعا، والحرص على إدارة التنوع ايجابيا، والاعتصام بالحوار الذى يؤدى إلى الاستقرار، واستيعاب طاقة الشباب فى سياق تحول ديمقراطى تنموى، وهو شأن سودانى بحت، يحسمه السودانيون، ويحددون شكل المستقبل الذى يروق لهم. ويُعد الاتفاق على شكل الحكم قضية السودان الأساسية منذ أكثر من ستة عقود، كما يقول بعض الساسة السودانيين، ونحن مهمومون بها، انطلاقا من الارتباط العضوى بين البلدين، ولكن القرار يظل بيد السودانيين أنفسهم، وأخشى من عامل الوقت الذى يُشعرنا دائما بثقل الأحداث، وأخطار المستقبل.