الأصل منها هو إما التنسيق السياسى والانتخابى بين أحزاب متشابهة فى رؤاها ومواقفها من الدولة والمجتمع والسياسة والاقتصاد، أو التنسيق بين أحزاب مختلفة تجمعها أهداف سياسية مرحلية كتشكيل قوائم انتخابية مشتركة وائتلافات حاكمة قوية وجبهات معارضة متماسكة، أو التنسيق بين أحزاب متشابهة ومختلفة حول قضايا رئيسية هى قضايا محل إجماع وطنى أو ينبغى صناعة توافق وطنى واسع بشأنها كالدستور وقرارات الحرب والسلام والأمن القومى وغيرها.
ما يحدث الآن فى الساحة الحزبية فى مصر يحمل الكثير من مضامين مستويات التنسيق الثلاثة هذه. الأحزاب الليبرالية، على سبيل المثال، كحزب الجبهة الديمقراطية والمصريين الأحرار والمصرى الديمقراطى ومصر الحرية تنسق على نحو دورى ومتصاعد مواقفها بشأن الانتخابات البرلمانية القادمة والقانون المنظم لها والموعد المقترح لإجرائها.
وكذلك فيما خص مسألة المبادئ فوق الدستورية المقترحة كضمانات للدولة المدنية، دولة مواطنة الحقوق المتساوية، وسيادة القانون وتداول السلطة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
هناك أيضا بدايات لتنسيق انتخابى بين عدد من الأحزاب الليبرالية واليسارية والإسلامية تختلف فى رؤاها ومواقفها السياسية، إلا أنها تشترك فى الالتزام (أو إعلان الالتزام) بالدولة المدنية والديمقراطية وسيادة القانون. هذه الأحزاب، وهى شاركت أخيرا فى اجتماع بمقر حزب الوفد وشاركنا به فى حزب مصر الحرية، تبحث اليوم فى كيفية تحديد وتفعيل مضامين هذا الالتزام دون لبس وتنسيق المشاركة فى الانتخابات ربما باتجاه تحالف انتخابى واسع.
هناك أخيرا اجتهادات متعددة لصناعة توافق متخطى لفواصل الأيديولوجيا والمواقف بين القوى السياسية والوطنية من أحزاب وجبهات وائتلافات حول ضمانات الدولة المدنية والديمقراطية فى الدستور الجديد. والأمر هنا يرتبط برغبتنا كمواطنات ومواطنين مصريين فى بناء الديمقراطية دون انتكاسات جديدة.
ويرتبط أيضا بكيفية تلافى التداعيات السلبية لانتخابات برلمانية تسيطر عليها قوى ذات توجه واحد تأتى ببرلمان غير متوازن ومن ثم جمعية تأسيسية غير متوازنة تضع الدستور دون التزام بطبيعته التوافقية. فالدستور لا ينبغى أن يعبر أبدا عن انتصار قوى الأغلبية السياسية أو الحزبية على الأقلية، بل عن توافق الأغلبية والأقلية.
من بين مستويات التنسيق الثلاثة هذه لم يثر إلا المستوى الثانى شيئا من البلبلة لدى الرأى العام فى مصر. البعض تعجب من كيف تقبل أحزاب ليبرالية على التنسيق مع حزب الحرية والعدالة بعد الاختلافات الحادة فى المواقف بشأن استفتاء التعديلات الدستورية ومسار التحول الديمقراطى. البعض الآخر صور الأمر باعتباره بمثابة لهث من قبل أحزاب ليبرالية ويسارية صغيرة للتعلق بركب حزب الحرية والعدالة الفائز المحتمل فى الانتخابات القادمة، ورأى به تخليا عن المبادئ والمواقف من قبل غير الإسلاميين. فريق ثالث هاجم، فيما خص الاجتماع الذى عقد بمقر حزب الوفد، حضور بعض الأحزاب الضعيفة التى دوما ما لعبت لعبة مملاءة الحزب القوى لضمان بعض المكاسب وكذلك حضور أحزاب لا نعلم الكثير عن مدى التزامها الفعلى بالدولة المدنية والديمقراطية.
والحقيقة هى أن، وباستثناء المكون الثالث لنقد اجتماع الوفد وهو أكثر من مشروع ويستدعى إعادة النظر فى الأحزاب المشاركة وربما استبعاد بعضها، اجتماع الوفد لا ينذر بتخلى الليبراليين عن التزامهم بالدولة المدنية أو بشروعهم فى مهادنة محسوبة بالاعتبارات الانتخابية لحزب الحرية والعدالة. فحزب الحرية والعدالة يعبر عن فصيل وطنى واسع ويعلن التزامه بالدولة المدنية وهدفنا كليبراليين فى مصر الحرية هو توظيف الحوار معه للوصول لتحديد دقيق لمضامين الدولة المدنية والديمقراطية يتجاوز العموميات ويجلى اللبس.
هدفنا، وهو لا يتعارض على الإطلاق مع استمرار تنسيقنا وتحالفنا مع الأحزاب الليبرالية الأخرى، هو الوصول إلى التوافق الضرورى بين القوى الوطنية المختلفة حول ضمانات للدولة المدنية والديمقراطية تصدر بها برامج الأحزاب الانتخابية وتشكل التزاما قاطعا من جانبها بالضمانات هذه حال تمثيلها بالبرلمان المنتخب.
بهدوء شديد، ليس فى التنسيق بين الليبراليين واليسار والإسلاميين شبهة ممالأة أو خيانة للمبادئ وليس به ما يعتذر عنه.