تزدهر الرواية السياسية الضد، حيث يوجد الدكتاتور، وتتنامى أهمية هذه الروايات مع تصاعد حدة الدكتاتورية، وقسوته، واستخدامه لجميع أشكال العنف، والقمع، من أجل ترويض معارضيه أو التخلص منهم.
ولولا ظهور الدكتاتور، ما تنامت مكانة الرواية السياسية فى مناطق بعينها من العالم، خاصة فى أمريكا اللاتينية، وقد تباين الحديث عن هذا الدكتاتور، والوقوف ضده، حسب البلاد، ففى العالم العربى، تم التعامل أدبيا، مع الدكتاتور، باستخدام الرمز، أو اللجوء إلى الفانتازيا.
وفى أمريكا اللاتينية، كان الدكتاتور، بشكله المرعب، المثير للجزع، موجودا فى الكثير من روايات كتّاب وضعوا أقدارهم بين كفوفهم، فتعرض الكاتب للكثير من المضايقات، بدأت بالمنفى، وانتهت بالسجن، أو الموت الغامض.
وسوف نتوقف هنا عند أبرز الحالات والنماذج، لعلها أهمها وأبرزها هو رواية «السيد الرئيس».. للروائى الجواتيمالى ميجيل انخل اوسترياس Miguel Angel Asturias الفائز بجائزة نوبل عام 1967 وهو الكاتب الذى قضى أغلب حياته يعمل بالسلك الدبلوماسى، وقد عرف بنشاطه السياسى الضخم، راح يدفع به إلى الولايات المتحدة، والكثير من العواصم فى أمريكا اللاتينية، وعاش فى متاعب سياسية مع زعماء بلاده بسبب مواقفه المتشددة من نظم الحكم، مما اضطره للرحيل إلى باريس عام 1962 وقد نشر الكاتب روايته «السيد الرئيس» وهى رواية استوحى أحداثها من الظروف التى جاءت للرئاسة بالرئيس خورخه اوبيكو بمساندة من الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد كتب اوسترياس روايته عام 1932، لكنه لم يتمكن من نشرها إلا بعد أربعة عشر عاما، وهى بمثابة رواية سياسية ملحمية حول الصمت الذى يسيطر على الدكتاتور الذى تحوطه بطانة من المنتفعين الذين يغلقون عينيه عما يدور حقيقة من حوله، ولا شك أن هذه الصورة تحدث دوما لكل دكتاتور فى جميع الأوطان.
الدكتاتور الحقيقى «كابريرا»، حكم جواتيمالا لمدة عشرين سنة حكما دكتاتوريا غاشما، أما المؤلف فقد استخدم الصور البلاغية الجديدة فى تصوير شخصياته، وغلّف روايته بستار شفاف من السخرية، ممزوجة بالفولكلور الخاص بسكان البلاد الأصليين، فالدكتاتور هو مجنون مستبد ملىء بالطغيان، والشهوانية، شهوانية السلطة والبقاء فيها.
والماء، والمناصب والقتل، فهو يقتل خصومه بنفس السهولة التى يتناول بها طعام فطوره، وهو يصدر قراراته الدموية بالرقة نفسها، والهمس الذى يخاطب بهما النساء، وهو يستمع إلى نغمات الموسيقى، لقد حول هذا الدكتاتور وطنه إلى جحيم، ومأوى للصوص، والقتلة المأجورين، واختار معاونيه من مسخ البشر المشوهين، وهم من المرتشين، خربى الذمم، فى الوقت نفسه الذى صار فيه المواطنون من المقهورين المذلين، الذين يحلمون بكل ما هو جميل.
إنها المفردات نفسها التى نقرأها كل يوم حول أى دكتاتور، لقد فتح السجون، كى يدخله رجال الفكر والإبداع الذين وقفوا ضده، وأيضا رجال الدين الذين نبهوا الرعية إلى ما يمارسه من طغيان. لقد رفضوا أن يحولوا هذا الدكتاتور إلى إله، وعندما يتم القبض على واحد من معارضيه، تتم محاكمته بشكل صورى، وسط غياب للعدالة، وكما جاء فى موسوعة الويكيبيديا انه «فى هذه المحاكم من الافضل أن تكون مذنبا على أن تكون بريئا ولا ترضى عنك الحكومة..» كما تقول الموسوعة أيضا أن أكثر ما يميز هذه الرواية التى فاز صاحبها بجائزة نوبل هو «الصدق الفنى العالى الذى يجعل من العمل الفنى عملا أغرب ما يكون إلى متلقيه، حيث يستطيع نقلنا من عالمنا إلى عالمه فنعيش معه رطوبة السجن، وعفن الخبز والموت الحى الأبدى، والانتظار فى زنازين مغلقة لا ترى فيها إلا وجه الموت القادم، وتحلق معه فى عالمه. وتجرى لتحتضن الشمس وتعانق طين الأرض».
تبدأ أحداث رواية «السيد الرئيس» بالحديث عن الشحاذين الذين ينامون فى «رواق الرب» الرب القريب من الكاتدرائية بعد أن تدق أجراس الكنيسة، يجمعهم الشقاء، ينامون متباعدين، وقد وضعوا كل ممتلكاتهم أسفل الرءوس، بعد أن قاموا بعدِّ ما كسبوه خلال ساعات النهار، وقد ولّوا الوجوه نحو الجدران، دون أن ينسوا التسليح بقطع من الحجارة وصور من التعاويذ.
هذه صورة من المحكومين، يختارهم الكاتب من أفقر طبقات الشعب، علّمتهم ظروفهم أن يكونوا شديدى القسوة، يفضلون إطعام الكلاب على إغاثة جائع بينهم، يتنابذون بالألقاب، يتسمون بالمشاكسة، لا تخلو أوقاتهم من ضحكات وقهقهة، يقوم رجال الدكتاتور بالقبض على شحاذ أعمى، هو نصف مخلوق، جسد بلا ساقين «أورمة»، يذهبون به إلى السجن، هو ومجموعة من الشحاذين بتهمة قتل أحد كبار رجال الجيش، لقد أجمع الشحاذون على أن القاتل هو الأبله الذى رأوه بالأمس يرتكب جريمته، ثم يغير الشحاذون أقوالهم بشأن الجريمة، ويعترفون أن القاتل ليس هو «العبيط» إلا أن السلطات تعدم هذا الرجل، وترمى به عربة القمامة، ويتم إطلاق بقية الشحاذين.
فى قصر الطاغية، فإن السيد الرئيس، يطلب من مستشاره إلقاء القبض على الجنرال «كاناليس» بتهمة ارتكاب جريمة الضابط العظيم، ويرى الرئيس أنه من غير المناسب إلقاء القبض على واحد من رجاله، فيساعده على الهرب.
يقوم مستشاره الرئيس، بعد منتصف الليل، بالاستعانة برجاله للهجوم على منزل الجنرال كاناليس ويستحل هذا المستشار لنفسه كل ممتلكات بيت الجنرال الهارب، كما أنه يستحوذ لنفسه بالمرأة التى يحبها الجنرال الهارب.
ويحدث أن يرسل الرئيس مستشاره بالسفر إلى نيويورك فى مهمة تتعلق بالمعارضة، يصور الكاتب أن الرئيس يعتمد فى سلطاته على التوجهات الأمريكية، لاحظ أن الرواية مكتوبة عام 1932، أى فى فترة الكساد الاقتصادى الكبير، ويصور اوسترياس مستشار الرئيس الطاغية، بأنه ذو وجه ملائكى. يتصرف كالكلب الذكى المتدرب جيدا، السعيد بنصيبه من العظام، والمتشبع بغريزة حب البقاء فابتسم وهو يخفى عداءه. بينما يصور الكاتب مسيرة الزوجة كميلة وهى تبحث عن جنرالها الهارب الذى ترك لها طفلا ينمو فى بطنها، ويحدث أن يتم القبض على مستشار الرئيس الذى يدخل السجن، وتأتيه الأخبار أن كميلة صارت عشيقة للرئيس.
ترك الكاتب اوسترياس ظله بروايته هذه على الكثيرين من الأدباء فى أمريكا اللاتينية، خاصة رواية «خريف البطريرك» لجابرييل جارثيا ماركيز، وايضا «حفل التيس» لماريو فارجاس يوسا وكلا الكاتبين فازا فيما بعد بجائزة نوبل فى الأدب.
وإذا كان اوسترياس قد حدد شكل الرئيس الدكتاتور فى روايته، فإن ماركيز قد تناول الطاغية عنده من طغاة أمريكا الوسطى، فى دون لم يحدده المؤلف، كى يخفى عن نفسه حرج المباشرة، ومن أجل أن تكون صورة الطاغية بشكل عام فى روايته هى صورة لكل طاغية فى أى زمان، وفى كل الأمكنة التى يتولد فيها مثل هذا البطريرك، حيث إن المؤلف يتكلم عن سيرة حياة الطاغية منذ الطفولة وذلك أثناء فترة العهد الأخير لنظام النيابة الملكية لأسرة «جووس»، فبعد أن تنتهى حروب الاستقلال فى أمريكا الوسطى، سرعان ما تقوم حرب أهلية شرسة بين طرفين، الأول يمثلهم المحافظون، والثانى هم الليبراليون، وتستمر هذه الحرب أحد عشر عاما، تناوب على الحكم فيها أربعة عشر جنرالا، لقد اختار ماركيز أن تكون دولته هنا أيضا هى دولة جنرالات، مثلما سبق لأوسترياس أن فعل.
آخر هؤلاء الجنرالات يحمل جميع السمات المألوفة للطاغية، خاصة التى قرأناها فى رواية «السيد الرئيس» فهو أيضا رجل شره للسلطة، وملذات الحياة، هذا الجنرال هو عميل للبريطانيين، الذين يحتلون الوطن، وهو يساعد البطريرك فى أن يصبح فوق قمة السلطة، هذا البطريرك يملك من القسوة ما لم يملكه غيره من الطغاة، ويصفه ماركيز على أنه رجل جاهل، دموى، وليست له خبرة إلا بالأعمال الدموية، مما يجعل البلد الذى يحكمه يسير من سيئ لأسوأ، خاصة فيما يخص الجانب الاقتصادى.
هذا الطاغية يستمد قوته من أصدقائه الأمريكيين، الذين يمنحونه المساعدات المالية، مقابل المزيد من التسهيلات لاستثمار الثروات الموجودة فى بلاده، لذا فإن هذا الطاغية لديه حماية، وقد أكسب المؤلف للطاغية جميع سمات الطغاة الذين عرفهم التاريخ، خاصة فى العصر الحديث، فهو قادر على قراءة خريطة وجوه خصومه، ويعرف كيف يتسرب من مكانه حين يأتيه الخطر، ومتى يأمر باغتيال خصومه، وكيف يدخلهم السجون دون محاكمة، كما أنه يبقى دوما فى الحكم، من خلال ديمقراطية ينسجها هو لنفسه، حيث يبتدع ما يشبه اليانصيب، يقوم بسحب بطاقات اختياره اثنين من الأطفال، البطاقتان مكتوب عليهما اسم البطريرك، وبعد السحب، يتم إلقاء الطفلين فى المعتقلات.
يتحدث ماركيز أن اختفاء عدد كبير من الاطفال وراء غياهب السجون، قد أرق الأهالى، فلجأوا إلى الاحتجاج، والمناداة باطلاق سراح الأطفال الذين دبر لهم الطاغية عملا تخريبيا للتخلص منهم ويكتشف الطاغية أن مساعده الأول هو الذى يدبر المؤامرة ضده، فيأمر بالقبض عليه، ويوضع فى فرن من أجل تحويله إلى لحم مشوى، يقدم فوق طبق من الفضة ليأكل من اللحم كل الجنرالات الذين تورطوا مع الجنرال فى ارتكاب فظائعه.
وقد تحدث الكاتب العراقى عبدالكريم كاظم حول هذه الرواية، قائلا: «ثمة آلية، غريبة تحصل داخل الرواية تميز عهد هذا البطريرك تتمثل بعملية تقسيم وتوزيع الثروات بوصفها كما يعتقد ملكية خاصة لهم، أعنى الحاشية ومن معهم، خصوصا أمه بنديتون الفارادو التى أعطاها بمرسوم ملكى صفة قديسة الوطن، على الرغم أنهم فى لحظة من اللحظات الكثيرة كانوا يتمنون التخلص منه بشتى الطرق التى قد تتاح لهم بسبب عناده وتخلفه الذى يهدد كما يتصورون استقرار الحكومة الذى يجعل حدوث انفجار ما ممكنا نتيجة حالة الاستياء العامة التى يشعر بها المدنيون والعسكريون على حد سواء، أو لنقل بصور متفاوتة.