مُحَاكَمَة الفَسَدَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:46 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مُحَاكَمَة الفَسَدَة

نشر فى : الجمعة 17 يونيو 2016 - 9:30 م | آخر تحديث : الجمعة 17 يونيو 2016 - 9:30 م

على غِرار المَحكَمَة الجنائية الدولية ومَحكَمَة العدل الدولية، تدور أفكار ومجادلات فى العالم الغربى حول إقامة مَحكَمَة دولية جديدة، لن تعمل على ملاحقة مجرمى الحرب ومرتكبى المجازر وأفعال الإبادة ومن فى مصافهم، بل ستعمل هذه المرة على مُجابهة الفساد.

المَحكَمَة كما يقول المفكرون والسياسيون الذين يناقشون إمكانية تنفيذها، لن تسعى وراء الفاسدين الصغار، بل ستوجه طاقتها لمحاربة فساد الكبار، وسيكون زبائنها من القادة البارزين فى أنحاء العالم كافة.


●●●


يقول الكاتب «Robert Rotberg» فى مقالة له نشرتها صحيفة Globe & Mail الشهيرة والتى تصدر يوميا، إن نوع الفساد الذى ينبغى إنشاء المَحكَمَة مِن أجله هو ذاك الذى يدمر تطلعات الشعوب نحو مستقبل أفضل.

يأخذ الكاتب على سبيل المثال لا الحصر نموذج تجار السلاح والمخدرات، وغيرهم ممن يعتمدون اعتمادا كبيرا فى حماية نشاطهم على تعاون قِسم من الساسة، وبعض من المسئولين عن الأجهزة الأمنية، ونيف مِن القُضاة. أظن أن الأمر قد لا يقتصر على الحماية وحدها، فقد يتمكن هؤلاء مِن تطوير أعمالهم غير القانونية وتنميتها فى ظل مَنظومة مُتكاملة مِن المَصالح المُتبادَلة، لا تعكس إلا حال العطن التى تشوب المجال العام.


كاتب المقالة الذى يعمل كأستاذ أكاديمى بجامعة هارفرد، متخصصا فى الصراعات الداخلية للدول، يرى أن فساد القادة السياسيين يشوه القضايا القومية، ويرسخ اللامساواة فى أسوأ صورها، كما يزيد الصفوة المُتأمرة ثراء. هذا الفساد يقوض فى نهاية الأمر أركان العقد الاجتماعى الكائن بين السلطة من ناحية، والمواطن من ناحية أخرى، فممثلو الطرف الأول – أى السلطةــ يسعون إلى الحفاظ على المناصب الهامة والميزات الاستثنائية فى نطاق الأبناء والأعوان، وبالتالى يجد الطرف الثانى ــ أى المواطن نفسه فى مرتبة أدنى، لا هى تحقق له طموحاته فى الترقى طبقيا، ولا هى تبقى على وجوده فى الهامش أيضا.


●●●


يضرب الفساد بجذوره فى مستويات اجتماعية متعددة، خاصة داخل البلدان النامية التى تحكمها أنظمة شمولية صارمة، تشبه شبكة العنكبوت فى مظهرها.

فساد الصفوة الحاكمة يلقى بظلاله على الآخرين ويدفعهم بلا رحمة إلى ممارسة أشكال متباينة مِن التردى الأخلاقى؛ لا أقصد قطعا ما يتعلق بأمور شخصية، بل ما يرتبط بالجوانب الاقتصادية، فمسائل من قبيل الرشوة والتلاعب والتَهَرب من بعض الالتزامات المادية التى يُفترضُ أن يؤديها المواطن للدولة، بل والاعتداء على الأملاك الحكومية والعامة وسرقتها فى بعض الأحيان، تصبح ولا شك أمورا طبيعية فى ظل غياب العدالة الاقتصادية، وتقاعس كبار الفاسدين الجاثمين على المناصب العليا عن تقديم خدمات حقيقية للطبقات الأقل حظوة والأعتى فقرا، بل وحرمانها مِن فرص التطور الطبيعى ومن أمل التغيير.


فساد الفئات القابعة فى أسفل الهرم الاقتصادى والاجتماعى فساد يدعو إلى الشفقة؛ وصف تكرر أكثر من مرة على ألسنة وأقلام مَن تناولوا الموضوع. هو فساد قد ينصلح أغلب الظن تلوا لإصلاح فساد القابعين على القمة، لذا تجئ الدعوة إلى إنشاء محكمة ضد الفساد، مصحوبة بتأكيدات وتوصيات توضح دون لبس من ستستهدفهم، ومن يجب عليها أن تسعى إلى تقويض نفوذهم ومُعاقبتهم.


●●●


تابعت بعض ما كُتِبَ عن المَحكَمَة الجديدة المُزمَع إنشاؤها على ما يُؤمَلُ فى القريب، وتساءلت بينى وبين نفسى عن الآليات التى يُمكن اتباعُها: كيف تُرفَع قضية دولية ضد رجل سياسة مُحَنَك ذى مَنصب مُخيف، أو ضد حاكم يقبض على أركان السلطة، مَن الذى سيقف أمام أيهما وهو فى كامل سلطانه وهيلمانه وسطوته، وكيف يأمن البطش والانتقام؟


فكرت وفى الأجواء تحوم رائحة منظومة الفساد العتيدة التى نتنفسها ونحياها منذ عقود طويلة، إن كان الأمر ذا جدوى فى مثل حالنا البائسة المزمنة، فكرت أن رجلا جرؤ على كشف مَواطن الفسادِ وهو بمَنصِبٍ يؤهله للفعل والتمييز واتخاذ القرار، صار بين ليلة وضحاها مُتهما، تلاحِقُه أدواتُ التنكيل، فتشوه صورته وتُسئ إلى سُمعَته، ولا تخجلُ الأبواقُ مِن مُبررات ساذجة وحيثيات واهية تقدمها للجماهير، فكرت إن كانت المَحكَمَة الدولية ستطال يوما مَن عَجَزَت الأنظمة القانونية المُعتادة عن مُحاصرتِهم، فراحت تُحاصِر الضحايا بدلا مِنهم.

فَكَرت وتَمَسَكت بتفاؤل مَبعَثَه مُحاكمات دولية أخرى طالت مَن ظنوا أنفسهم ذات يومٍ فى حِصنٍ مَنيع.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات