ظهرت فى الأيام الأخيرة على شبكة فيسبوك للتواصل الاجتماعى صور لأشخاص يشبهون إلى حد كبير أصدقائى، مع فروقات لم أتمكن فى البداية من تحديدها، ثم ظننت أنها صور لآبائهم وأمهاتهم، فالشبه بين أصدقائى وبين من فى الصور كبير مع فارق فى السن. فهمت بعد يوم أو أكثر أن من ينشرون هذه الصور يستخدمون تطبيقا جديدا طرحه فيسبوك بإمكانه أن يغير صورة حالية ليجعل صاحبها يبدو أكثر تقدما فى العمر. هكذا امتلأت المساحة الافتراضية بوجوه رجال ونساء أكبر عمرا تعرفت عليهم فورا طبعا، تماما كما أتعرف فى الشارع على أشخاص لم أرهم منذ كنت فى المدرسة أو الجامعة. وللأمانة فإننى أسلم عليهم أحيانا دون أن أتذكر أسماءهم ولا أسلم عليهم أحيانا أخرى إنما أكمل طريقى متعجبة من أثر السنوات على الوجوه، ثم لا ألبث أن أذكر نفسى أنهم، أى من صادفتهم فى الشارع، قد يكونوا فى اللحظة ذاتها يتعجبون أيضا من تأثير السنوات على!
***
أحببت كل صورة لكل صديق استخدم التطبيق، رأيت فى عيون معظمهم نظرة أعرف أنهم يملكونها اليوم ومنذ سنوات، أحببت جدا أنهم ما زالوا جميعا على قيد الحياة بعد عشرين أو ثلاثين سنة. لن يتعب أحد ولن يفتك مرض شرس بأى من أصدقائى. سوف تطرى ملامحهم دون أن يخفت بريق عيونهم، سوف تتجمع خيوط رائعة حول عيونهم وأفواههم حين يبتسمون. سوف تحكى تجاعيدهم قصصا قد أكون جزءا منها. سوف يجلس أصدقائى كما رأيتهم فى الصور العابرة إلى المستقبل معى فى شرفة منزلى، لا يهم فى أى بلد، وسوف تتطاير كلمات فى أجواء الأكل والشرب ولعب الطاولة وفناجين لا تنتهى من القهوة. سوف نحكى عن اليوم، الآن، وأنا أكتب هذه الكلمات فى محاولة منى أن أثبت اليوم حتى أعود إليه حين يشبه أصدقائى صورهم المستقبلية، بعد عشرين عاما.
***
أعترف أننى لم أستخدم التطبيق، كما لم أذهب إلى بصارة قط حتى من باب التسلية، ولم أطلب من صديقاتى أن يفتحن لى حظى فى الفنجان. لم أكن معنية فى أى مرحلة من حياتى بالنظر إلى ما يحمله لى المستقبل، ولم أتمن أن أعرف ما تخبئه لى صفحات الزمن. أنا رغم فضولى، لا أريد أن أقلب فصولا من كتاب حياتى فتقع عيناى على ما سيحدث بعد أربعة فصول أم خمسة. طبعا أتمنى أحيانا أن يمر الوقت بشكل أسرع خصوصا حين أكون فى مأزق أو فى حالة انتظار، لكنى لا أريد أى يقين بالنسبة للمستقبل ولا حتى نبوءة. أريد أن أقرأ كل صفحة بتفاصيلها وأقلبها فأكتشف باقى القصة لقطة بعد لقطة.
***
أريد أن أنظر إلى كلمات كتبتها أو صور قديمة لى فأقيس الزمن بالحكايات التى سردها الزمن على وجهى وجسدى وقلبى. أريد أن أنظر إلى الخلف فى محاولة لفهم مواقف ربما لم أفهمها حين حدثت، وربما يساعدنى بعدها الزمن على تقبل حدوثها وعلى الغفران لنفسى ولغيرى. ذلك التطبيق لا يناسبنى إذ لا أريد أن أرى على الشاشة وجهى حين أكبر فأنا أراه كل يوم حين أنظر فى وجه أمى التى بت أشبهها كثيرا أو أشبه ما كانت عليه حين كانت فى سنى. بت أشبه قريباتى اللواتى يشبهن أمى أصلا، ففى كل اجتماع لبنات الخالات أنظر فى وجوه الجيل الذى سبقنى وأستغرب من تقارب ملامحهن. لم أدرك هذا الشبه حين كن شابات، إنما من المستحيل اليوم أن تخف على أى غريب صلة الدم التى تجمعهن.
***
فى وجه أمى الصامت مئات القصص، فى تجاعيد والدى عشرات السنوات، أنا شاركت فى بعضها ولم أكن جزءا من بعضها الآخر، وها أنا ورثت بعضا منها حول عينى وحول فمى أيضا. ألاعب ملامحى فى المرآة كل يوم حين أحاول تقليد أمى وأبى وغيرهما من أفراد العائلة فيظهر الشبه بينى وبينهم. حتى حين أنظر فى وجه أبنائى الثلاثة فأرى حاجبا سيرتفع عند ابنى الأكبر مع الزمن ليشبه حاجب زوجى، والده. وحين يتأمل ابنى الأوسط نقطة بعيدة لا أراها، فإننى أرى أخى الذى يكبره بسنوات كثيرة ويظهر لى ابنى كما سيكون وهو فى ثلاثينيات عمره.
***
لن أقرأ الفنجان ولا أريد أن أعرف عن البشارة التى تنتظرنى بعد ثلاث إشارات من غريب. هناك بشارة تنتظرنى كل يوم وربما لا أعيرها اهتماما. ربما من الأجدر أن أركز أكثر فى الطريق الذى أمامى فعلا، وأن أراقب كيف يلتف هذا الطريق كل يوم حول عينى فيذكرنى بالخطوات التى مشيتها حتى وصلت إلى هنا. لن أستخدم تطبيق المستقبل إذ تكفينى صورة جمعتنى بوالدتى وابنتى لأرى ما يكاد أن يكون تطبيقا يظهر الشخص بذاته فى ثلاث مراحل عمرية، حيث إننا نشبه بعضنا البعض إلى حد صادم. أقرب الشاشة من وجهى وأرى نظرتى على وجه ابنتى، ثم أرى ابتسامة أمى على وجهى وأرى تعبيرا نصفه راض ونصفه متسائل على وجه أمى كنت قد حفظته على وجه جدتى، والدة أمى.
***
لن أقرأ الفنجان فها أنا أرتشفه كل صباح وأتوه فى طرق طويلة مليئة بالبشارات، أقطفها واحدة بعد الأخرى دون أن يخبرنى عنها أحد.