هل يلغى العالم الافتراضى نظيره الواقعى؟ - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 سبتمبر 2024 1:44 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل يلغى العالم الافتراضى نظيره الواقعى؟

نشر فى : السبت 17 أغسطس 2024 - 7:30 م | آخر تحديث : السبت 17 أغسطس 2024 - 7:30 م

 

مذ ساد ما أطلق عليه العصر الرقمى، وحتى قبل أن تتبلور ملامحه وتترسخ، كانت صرخات الفلاسفة والمفكرين عمومًا من شتى أنحاء العالم تدوى مُنذرة بخراب آتٍ؛ حتى إذا ما أثبت هذا العصر نفسه، ورُحنا نشهد تمظهراته وتجلياته كافة، لا سيما على صعيد الثورة فى استخدام وسائل التواصل الاجتماعى ضمن شبكات الإنترنت عمومًا، غدًا الكلام على اختفاء الواقعى لمصلحة الافتراضى موضوعًا يستحق الكثير من التأمل.
لا شك أننا أمام الإمكانيّات الهائلة التى وفرتها وسائل التواصل الاجتماعى للناس على مستوى المناقشات العامة والتواصل فيما بينهم، على اختلاف انتماءاتهم المناطقيّة والعُمريّة وخلفيّاتهم الثقافيّة، فضلًا عمّا تمتاز به كلّ وسيلة (مثل فيسبوك، جوجل، واتس آب، تويتر، فايبر، سكاى أب، وإنستجرام وغيرها) من خصائص، وما توفر من وظائف، ومدى الاعتماد عليها لجمع المعلومات المتنوعة، على اختلاف المستويات التعليمية والمِهنية والثقافية للأفراد؛ ذلك أنّ عظمة هذه الإمكانيّات ولّدت «دمقْرطة غير مسبوقة للكلام» على حد تعبير الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسى جيل ليبوفتسكى. إلا أن الأخطار والتهديدات والتحديات الناشئة عن الثورة الرقمية بعامة، وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعى بخاصة، توازى، إذا كانت لا تفوق، الإيجابيات المتأتية عنهما. فهذه الدمقْرطة غير المسبوقة للكلام، التى تتجلّى فى أننا «كلنا مدفوعون إلى الاتصال بالهواتف، وكلنا يجد الرغبة فى قول شىء ما انطلاقًا من تجربته الخاصة»، أفضت برأى ليبوفتسكى إلى تغليب فعل التواصل على حساب طبيعة موضوع التواصل، وإلى اللا مبالاة تجاه المضامين، وإلى انمحاء للمعنى.. إلخ؛ إذ على الرغم من كل الفرص التى أتاحتها الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل (مثل تويتر وفيسبوك وإنستجرام) للناس، إلا أنها نَجحت، بحسب الفيلسوف الكندى آلان دونو، فى «ترميز التافهين»، أى «تحويلهم إلى رموز».
صحيح أن هذه الثورة الرقمية جاءت بالخير العميم، كما جاء فى كلام سعيد بنكَراد فى تقديمه كتاب «الإنسان العارى، الديكتاتوريّة الخفيّة للرقمية» لمارك دوجان وكريستوف لابى، «كَسب الإنسانُ بفضلها أشياء كثيرة: فى المعلومة ومُعالجتها وتداولها، وفى الصحّة وطول العمر والأمن والسرعة، لكنّه خسر كلّ شىء أيضًا، الحميميّة والحياة الخاصة والحرية والحس النقدى. لقد رُدّت هويته بكل غناها إلى دائرة الاستهلاك وحده؛ اختفى المُواطِن، كما اختفى التنافس السياسى وتعدد البَرامج وتنوّعها، لكى يعوّض كلّ ذلك بآليّة ضبط سياسى صارم يتحكّم فى الرأى العام ويُوجهه، وذلك ما تقوم به الشبكات الاجتماعية بشكلٍ ناعم وطوعى، حيث يَضع الناسُ فيها حريّتهم عند أقدام فاعلين رقميين يعرفون عنهم ما لا يعرفونه عن أنفسهم». إنّهم هؤلاء الفاعلون الرقميّون الذين تؤول إليهم سلطة التحكُّم بالمعلومات بما يصبّ فى مصالحهم؛ والمقصود بهؤلاء الفاعلين الرقميين مجموعة الشركات المتعددة الجنسيات التى تنحصر غايتها فى الربح، والربح السريع أولًا وأخيرًا، المُقترن بابتكار آليات جديدة ومتجددة لتشكيل أذواق الناس وتطلعاتهم وأنماط عيشهم.
على هذا لا تكتفى هذه الثورة الرقمية بالتحكم فى نمط حياتنا وتوجيهها إلى ضخ المزيد من المعلومات والمزيد من السرعة فى الاتصال، إنها بالإضافة إلى ذلك، تقودنا إلى حالة من الامتثالية والعبودية الإرادية و«الشفافية»، ستكون نتيجتها النهائية هى القضاء على الحياة الخاصة، حينها سيتنازل الناس طوعا عن حريتهم.
• • •
هذا العالم الافتراضى الخاضع، شأنه فى ذلك شأن العالم الواقعى، للمنطق الاقتصادى العالمى نفسه وأخلاقياته وقيمه الثقافية المعولمة، لا سيما قيمتى الاستهلاك والفردانية، ولكل ما تستلزمه آليات الإنتاج والتسويق والربح، تضخّم إلى حد طغيانه على العالم الواقعى والتهديد بإلغائه ليغدوَ ما سمّاه بودريار «فوق الواقع». فما نعيشه اليوم بحسب بودريار «هو ابتلاع نمط الإعلان لكل أنماط التعبير الافتراضية، فكل الأشكال الثقافية الأصيلة، وكل الكلمات المُحدّدة مُبتلَعة فى هذا النمط لأنه بلا عمق وفورى وسريع النسيان. إنه انتصار الشكل السطحى، الحد الأدنى المشترك لكل مدلول، درجة صفر فى المعنى».
هاتَان القيمتَان، أى الاستهلاك والفردانيّة، ليستا بجديدتين لأنهما واكبتا صعود الرأسمالية والمجتمعات الصناعية المتقدمة أو مجتمع الحداثة والتقنية؛ آنذاك قاد التطور التقنى الفلاسفة إلى المطالبة بعلاقة حرة بالتقنية، ومن أبرز هؤلاء هايدجر، الذى حذَّر من كلّ ما من شأنه أن يهدّد الإنسان ويجعله «يَهجر» كينونته الحرة، مركزًا على إقامة علاقة حرة مع التقنية، وعلى أن نصبح أسيادًا عليها، سيادة «تصبح أكثر إلحاحا كلما هدّدت التقنيّة أكثر بالانفلات من مُراقبة الإنسان». وكان ماركس قبله قد رأى فى التقنية سبيلًا أتاح للطبقة البرجوازية ممارسة استغلالها للطبقة العاملة، وأدى إلى اغتراب العامل عن إنسانيته. لكن الثورة الرقمية، بما هى ثورة صناعية فى مضمونها تقودها حيتان المال، لا تشبه فى سماتها ومظاهرها أى ثورة سابقة، لا فى مظاهرها ولا فى تداعياتها على الأفراد والمجتمعات؛ حيث فوّضت الولايات المتحدة الأميركية مثلا لكلّ من بيل جيتس صاحب ميكروسوفت، ومارك زوكربيرج صاحب فيسبوك، استغلال وتخزين وتكرير المناجم الرقمية، فكوّنوا إثر ذلك ثروة وسلطة غير مسبوقتين.
وما يصح من كلام على التقنية يصح على ظاهرتى الاستهلاك والفردانية اللتين رافقتا زمن الحداثة؛ إذ بلغ المُجتمع الاستهلاكى أعلى درجاته فى عصر الثورة الرقمية والميديا والاتصال، وحلّت «فردانية خالصة» بدلًا من فردانية زمن الحداثة التى حملت بعضا من قيم «الانضباط» و«المناضلة» و«البطولة» و«الوعظ الأخلاقى»، «متحرّرة من آخر القيم الاجتماعية والأخلاقية التى لا تزال تتعايش مع الحكم المجيد للإنسان الاقتصادى وللأسرة والثورة والفن، وتتجاوز أى تأطير مُتسامٍ». إنها فردانية ماتت معها وفيها ثقافة التضحية. كما أنّ "الفردانية السابقة، التى كانت انضباطية ومناضلة وبطولية وواعظة أخلاقية، قد تمّ تنحيتها جانبا من طرف فردانية جديدة وفق الطلب، تتميّز بكونها مُتعية ونفسية، وتَجعل من التحقّق الذاتى أهم غاية فى الحياة. لقد أدت الثورة الفردانية الثانية إلى انحدار المشاريع المجتمعية الكبرى، وتآكل الهويات الاجتماعية والمعايير الإكراهية، وإلى تقديس حرية التصرّف فى الذات على مستوى الأسرة والدين والجنس والرياضة والموضة والانخراط السياسى والنقابى».
• • •
الخوف إذا من طغيان الافتراضى على الواقعى لا يعززه توسع مُجتمع المعلومات وسرعة تداولها، لا سيما على صعيد شبكة الإنترنت فحسب، بل سمات الزمن الراهن «المتسارع» بإيقاعه وتأثيراته الضاغطة بحسب الفيلسوف الألمانى هارتموت روزا، و«العنيف» و«الديكتاتور» بحسب عالِمة الاجتماع الفرنسية نيكول أوبيرت، حيث غدا ثمة سباق قائم على الفتح والامتلاك، وحيث أَصبح الطارئ أو الملحّ يحيل إلى زمن اجتماعى مُختل، يضغطنا أو يضغط علينا من أجل التصرّف بسرعة أكبر بغية الاستفادة أكثر؛ حتّى أضحت لهذا الزمن الأسبقيّة على الإنسان. وإن سيادة هذا «الطارئ أو الملح» تقوم فى إطار من «سيلِ توتر» مُعمّم، «ينطبق على الطريقة التى يغدو فيها الأفراد مُجبرين على إدارة وقتهم فى سياق يُفترَض فيه، ومن دون انقطاع، الاهتمام بما هو الأكثر استعجالًا، وحيث يتغلب الطارئ أو الملح على المهم، وزمن التصرف أو العمل المباشر على زمن التأمّل».

مؤسسة الفكر العربي
النص الأصلى:

التعليقات