عقدت رابطة الكنائس الإنجيلية فى الشرق الأوسط ــ بمناسبة عيد تأسيسها ــ مؤتمرا الأسبوع الماضى شارك فيه مثقفون مسلمون ومسيحيون، وشمل حوارا صريحا جادا فى ضوء ما حدث فى المنطقة العربية خلال السنوات الماضية، ومن ملامحه الأخيرة قتل وتهجير المسيحيين فى سوريا والعراق.
استضافة القاهرة للحوار له مغزى ودلالة مهمة، فهى الدولة القومية التى لا تزال تحتفظ بالتعايش الإسلامى المسيحى رغم ما مر به من خطوب، ومنحيات حادة. وهو ما ثمنه المشاركون فى المؤتمر، الذى شاركت فى تنظيمه الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية.
ترددت فى أرجاء المؤتمر نقاشات جادة تكشف عن وجود تحول فى إدراك القضايا، وعدم الرغبة فى الوقوف فى المساحات الرمادية أو منتصف الطريق. هناك هاجس لما يحدث من وحشية فى تعامل «داعش» وأخوتها مع المسيحيين بما لم يشهده التاريخ الحديث فى هذه البقعة من العالم، ولكن هذا الهاجس يطرح قضية مهمة: «داعش»، وكذا بقية الحركات المتطرفة لا تمثل بالقطع الإسلام، الذى تعايش معه المسيحيون، ولكن استمرار استشرائها يمثل خطرا على صورة الإسلام ذاته، مما يقتضى جدية وصرامة فى التعامل مع التطرف بكل أشكاله: فكرا، وحركة، وتنظيما. لا ينبغى أن تقف المواجهة مع الراديكالية الإسلامية القتالية، ولكن يتعين أن تمتد إلى تجفيف منابع التطرف والعنف اقتصادية واجتماعية وثقافية.
فى المؤتمر تأكيد على أن المسيحيين يتمسكون ببقائهم فى المنطقة العربية، فلا يصح أن يكون مهد السيد المسيح بلا مسيحيين، وفى بقائهم رسالة حضارية مهمة أن الإسلام يواصل تعايشه التاريخى مع الآخر، وإن الرداء الحضارى الأرحب يستوعب بين جنباته المختلفين فى الدين والمذهب والثقافة.
المسيحيون العرب لا يرون أنفسهم «رعايا»، ولكن مواطنون كاملى المواطنة. وهو ما يقتضى أن تكون لهم فرص متساوية مع بقية المواطنين فى السياسة والاقتصاد والمجتمع، وحرية فى التعبير عن أنفسهم، وبناء دور العبادة، والمشاركة فى بناء المجتمع الذى يعيشون فيه.
المسيحيون العرب «مرسلون» لخدمة مجتمعاتهم، وليسوا «محصنين» يبحثون عن الحماية، أو ينتظرون هجرة إلى دول الغرب، حتى إن فعل بعضهم ذلك تحت وطأة الإرهاب والتهجير القسرى، فإن لديهم رغبة فى العودة إلى مجتمعاتهم.
إجمالا يمكن القول بأن المؤتمر انطلق فى مختلف النقاشات من إدراك بأهمية «المواطنة»، مما يعنى أن السلطة فى العالم العربى ينبغى أن تفكر بجدية فى وضع الأطر التى تسمح للمواطنين بالتمتع بالمواطنة الكاملة، لا مجال لعودة العلاقات القديمة التى تحشرهم فى قالب الطوائف والملل والعشائر، التى لم يعد لها وجود فى الدولة القانونية الحديثة.
حين ضعفت أو ترهلت الدولة القومية، التى لم تخل من استبداد، وضعفت مفاصلها، ترعرع الإرهاب والتطرف، اليوم نحن بحاجة إلى دولة جديدة تقوم على الحكم الرشيد والديمقراطية والحريات ليس فقط للحفاظ على وحدة مواطنيها، ولكن أيضا لمواجهة دعاوى التقسيم التى تجتاح المنطقة، وليس التحالف الكونى الذى يتشكل لمحاربة «داعش» بعيدا عنها