حضرت اجتماعًا لم يكُن فيه مَن يُنصِت للآخر. اخترت الصَّمتَ وأبصرت على المقعدِ المقابل مَن يرفع كلتي يديه ويصنع بهما علامة تعامد؛ مفادها طلبُ راحةٍ أو هُدنة. بعد قليل انتبه نفرٌ من الناسِ له، فانضموا لفريق الصامتين، المُعترض على ما آل إليه النقاشُ من هَرجٍ ومَرج.
•••
حين تعمُّ الفوضى ويتعالى الصَّخبُ وتتداخل الأصواتُ، فلا يُميز الحاضرون من بينها حرفًا، ولا تعود للحوار جدوى؛ يتبرع طرفٌ فيزعق سائلًا أترابَه نقطةَ نظام. برهة وجيزة مِن التريُّث والتأني ومُراجعة المواقف، تُفَضُّ أثناءها المعاركُ اللفظية، ويُزال الاشتباك. نقطةٌ تعيد للجمعِ هدوءَه ورزانتَه، وتحفظُ له اتزانَه وتحقِّق هدفه.
•••
النقطةُ في مَعاجم اللغة العربية هي المرة الواحدة مِن الفعل نَقَطَ. هي أصغر العلامات المُستخدمة في الكتابة حجمًا؛ لكن فعلها عظيم. بها يكتمل المعنى، وبعدها يبدأ آخرٌ تصوغه جملةٌ قصيرةٌ أو عبارةٌ مُطوَّلة. إذا حلَّت النقطةُ؛ التقط القارئُ أنفاسَه، وإذا لم تظهر؛ واصل طريقَه بين مُفرداتِ النصّ.
•••
إذا قيل نقطةٌ ومِن أول السَّطر؛ فليس المراد دومًا أن يبدأ التلامذةُ فقرةً جديدةً كقاعدةٍ من قواعدِ الكتابة، يتعلمونها في المدرسة خلال السنواتِ الأولى، ويطبقونها في حصةِ الإملاء؛ إنما قد يكون القصد من وراءِ القول مجازًا، يعني به القائلُ فصلًا جديدًا مِن فصول حياته يبدأ، أو حدًا قاطعًا يضعه لما فات، أو موقفًا يؤكد تمامَه؛ فينهيه بنقطةٍ حاسمةٍ وينتقل لما يليه.
•••
في الثقافة الشعبية؛ تشير كلمةُ "النقطة" المُعرَّفة بالألف واللام إلى قسمِ الشرطة. ربما هو توصيفٌ مكانيٌّ أو تنظيميٌّ يعكس وجودَ القسمَ في قلب مَنطقة مُحدَّدة كنقطة ارتكاز؛ يمكن الوصول منها إلى أهم الشوارعِ والحاراتِ ومواطنِ الأزمات.
•••
يُقال في القاموس العاميّ عن شخصٍ تجندل وسقط تحت وطأة الظروفِ القاهرة؛ قد أصابته النُّقطةُ، والمقصود أنه شُلَّ أو كاد أن يُشَلَّ، وظهرت عليه أعراضُ عسر الحركةِ وصعوبتها وربما اعوجَّ منه اللسانُ واستعصى الكلام. فكرت في سببِ التسميةِ وبحثت فلم أجد تبريرًا قاطعًا وأكيدًا، والظنُّ أنها انبثقت من معرفةٍ علميةٍ صادقة لكنها كانت في حينها مُبهمةً؛ جلطةٌ صغيرةٌ في حجم النقطة، تتكون داخل الشعيرات الدموية بالدماغ فتحدث تلفًا بمراكزه، وقد تتعطَّل على أثرها يدٌّ أو ساقٌّ أو عينٌ، ولا عجب إذا ضايق واحدٌ آخرَ بكلامِه، فأرهقه وأعجزه عن الرد؛ أن يُذكَر بالعامية أيضًا إنه "نَقَطه" بفتح النون والقاف.
•••
تمهد الفصلةُ المنقوطةُ لمجيء عبارةٍ تشرح ما فات أو تبرره، جملة استدراكية ليست في موطنِ عطفٍ تقليديّ، ولا تصلح معها فصلةٌ عاديةٌ عديمةُ النقطة. في اللغة الفرنسية يُقال نقطةُ دهشة ونقطةُ استفهام بدلًا من علامة دهشة أو استفهام؛ للنقطة قيمتها وبدونها تفقد كثير الأشياء مغزاها. لم تكُن الأحرفُ العربيةُ منقوطةً حتى منتصف القرن الأول الهجريّ، ثم استخدمت النقاط اتقاءً للحن في اللغة بحلول عهد عبد الملك بن مروان؛ لكن ذاك ليس بعذرٍ كي ننثر اليومَ النقاطَ في غير مواضِعها، ولننظر كم من هاءٍ حطَّت فوق رأسِها نقطتان فأثقلتاها، وأورثتاها معنى غير المعنى.
•••
تُدلل النقطةُ السوداءُ على عملٍ مُشين حفظه التاريخُ. تدين أفعالًا ارتكبها أفراد أو اقترفتها دولٌ في حقّ آخرين، وما أكثر النقاط السوداء وقد تبعثرت شرقَ الكوكبِ وغربه، وتناثرت بين شمالِه وجنوبِه؛ فدمغته بفظاعاتِ احتلالٍ واستغلالٍ وعنصريةٍ، لا تُجدي معها المنظفاتُ أو مُزيلاتُ البقع.
•••
إذا ضاع جزءٌ في كُلٍّ وتماهى معه، كأن ذاب شخصٌ واختفى وسط حشودٍ من البشرِ؛ فالوصف الدقيق أنه صار مثل نقطةٍ في بحر، يتوه الباحثُ عنها وسط أشباه لا يُحصى عددها، ولا يتأتى فرزُها والتمييزُ بينها. مِن نقطةِ تحوُّلٍ إلى نقطةِ خلافٍ مرورًا بنقطة ضَعف، ووقوفًا عند نقطةِ الصفر التي يُكنى بها أوانُ الانطلاق؛ تتعددُّ النقاطُ البلاغيةُ ولا ينضبُ أمام الراغبِ مَعينُها.
•••
إذا اكتملَ نصٌّ أو انتهت مقالةٌ، كانت النقطةُ الأخيرةُ بمنزلة حُكْمٍ على ما سبق؛ فإما إفساد أو حُسن ختام. قد تبقى الكلماتُ مع القارئ لحظةً ثم يزول أثرها، أو تدور في الرأسِ ساعات ثم تتلاشى رويدًا، وقد تدوم في القلبِ دهرًا؛ يكررها على أسماعِ آخرين، ويستعين بها ما وافقت مُبتغاه.