قضيت ليلة رأس السنة فى رحلة عابرة استغرقت أياما ثلاثة خارج العاصمة، وانتهت بالعودة إليها صباح العام الجديد. دعوة لعشاء وفقرات لألعاب بهلوانية وغناء وبعض الرقصات الإيقاعية، عروض كثيرة بائسة باهتة، جمعت أصوات وحركات لا طعم لها ولا رونق فيها، ولا حتى قدر من الحِرَفية والتَمَكُّنِ يسمح للحضور بإبداء الإعجاب أو التعاطف. قبل أن ينتصف الليل، ظهر أخيراً شاب أسمر؛ طويل القامةِ وشعرِ الرأس، نحيل العود، فى لباس مزركش؛ هو راقص التنورة الذى بدا قادماً ليمحو ساعات متواصلة من الملل والضيق. غاب عنه المساعدون الذين يؤازرونه فى العادة بأردية بيضاء، ولم ير الجمهور المُتَخَشِّب على المقاعد بقية أعضاء الفرقة المُتَوَقَّعِين، لكن الموسيقى انطلقت على أى حال وبدأ الشاب فى الدوران.
•••
تحكى التنورة كما هو معروف للكثيرين؛ قصة انفصال السماء عن الأرض، يمد الراقص ذراعه «اليمنى» لأعلى وتبقى اليسرى مُتَدلِّيَة إلى أسفل. تَنفصل طبقات التنورة واحدة تلو الأخرى مع الدوران، لكن الصلة بين السماء والأرض تظل منعقدة ضمناً عن طريق الذراعين الممدودتين. يُقال إن مع هذا الانفصال يتجرد الراقص مِن همومه وينفصل هو الآخر عنها، وأنه بتخلصه من الأربطة الملفوفة حول جذعه يرمز لفكاكه من رباط الحياة وتحلله مما يقيد حركته، كما يُقَال عن سر الدوران المعاكس لعقارب الساعة، إن حركة الكون ذاته دائرية، تبدأ من نقطة وتعود إليها وكذلك يفعل الراقص. يُقَالُ أيضاً إن التنورة المرتبطة بعوالم الصوفية، والمحفوفة بموسيقى الشجن وكلمات التوحد بالذات الإلهية والذوبان فيها، قد ظهرت فى مصر خلال العصر الفاطميّ، وأن أول من أدخلها هو جلال الدين الروميّ.
•••
أفقت من حال الشرود والانسجام مع الرقصة على أضواء شديدة، انبثقت من جسد الراقص ولم أكن رأيتها فى أى من عروض التنورة التى حضرتها سابقاً، منذ سنوات طويلة. قبل أن أستوعب وجود تلك الأضواء الصفراء والخضراء والحمراء، ولمبات النيون التى راحت تومض وتنطفئ على صدر الشاب وبطنه وظهره، وكذلك على تنورتيه؛ السابحة فى سماء القاعة والمحيطة بخاصرته، قبل أن أبذل أية محاولة للاقتناع بأن الأضواء التى اختطفت الأبصار كلها ربما هى بالفعل جميلة، وأن نفورى منها لهو من فعل المفاجأة، أخرج الراقص شمسية راح يحركها يميناً ويساراً ويرفعها ثم يخفضها ويديرها، ولم يلبث عدد الشمسيات أن تضاعف سريعاً وغطاه. شمسيات متوسطة الحجم، رخيصة الثمن، لها ألوان متنافرة، لا يعرف أحد ما تصنعه فى هذا المكان. صار الراقص شبيها بعروسة المولد.
بدت الرقصة عند هذه المرحلة وقد تخلت عن الفلسفة الكامنة فيها، وبدا أن الراقص يخلق كوناً جديداً، عالماً مختلفاً عن هذا الذى يحاكى راقصو التنورة التقليديون قصة خلقه. لم يأت خلق العالم الجديد على أنغام الناى والمزمار الشَجِيَّة والآت الإيقاع المعتادة من دفوف ومزاهر فى الرقصات الصوفية، لكنه جاء على أنغام الدى جى. تكونت سماء العالم الجديد من طبقتين فقط، تشعان ألواناً وأضواءً، وأحاطت به الشمسيات مِن الجوانب كلها. التفت حوله حتى كادت تغطيه، وتحجبه عن الناس الذين لم يعودوا قادرين على رؤية أية تفاصيل.
•••
خلع الراقص الطبقتين ولم يُكَلِّف نفسه مشقة طيهما ــ كما اعتاد أن يفعل راقصو التنورة ــ فى خشوع يليق بتَمَثُّلِ عملية الخلق، أطاح بهما طبقة وراء الأخرى على امتداد ذراعه لتسقطا أرضاً. صار العالم الجديد مَلقياً بازدراءٍ ومتجعداً، كما بدا حقيراً وفقيراً لا جلال له ولا عظمة. فقدت الرقصة جمالها وبهاءها، وكذلك فقد الكون رهبته، وما أفلح الراقص فى الصعود بجمهوره إلى الحالة الصوفية الروحانية، بل أُضِيفَت إلى الأجواء هُمومٌ بدلاً من أن تنقضى. كانت تلك هى الرقصة الأولى العجيبة التى أصادفها ليلة رأس السنة.
•••
الرقصة الثانية صادفتها فى اليوم الثانى بعد العودة إلى القاهرة. صبيان وبنات، رجال ونساء، مجتمعون فى أحد الميادين الكبرى، يعتلون رصيف الحديقة التى تتوسطه، يهزون البطون والرءوس والأَكُفَّ، ويتمايلون مع دقات الطبول التى يحملونها هاتفين: «الداخلية مية مية»، فيما يرفع ضابطٌ شابٌ ممشوق القامة قبضتيه لأعلى؛ مشيراً بعلامة النصر الشهيرة، ومستحثاً قائدى السيارات المارة على مشاركة الراقصين والراقصات.
لم أفهم على الإطلاق دواعى الرقص على شرف وزارة الداخلية فى هذا التوقيت، كما لم أفهم أيضاً علاقة علامة النصر بالرقصة، مَن الذى انتصر على مَن وكيف، ومَن الذى يحتفل الآن؟ أتراها رقصة الطائر المذبوح؟ بدت تلك الرقصة المُصَغَّرَة إحدى علامات الكون الجديد الذى دشنه راقص التنورة.