رحلة فى خان القلوب - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:11 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رحلة فى خان القلوب

نشر فى : الأربعاء 18 يناير 2017 - 9:15 م | آخر تحديث : الأربعاء 18 يناير 2017 - 9:15 م
فى الحارة الضيقة تلمع اللآلئ الملونة فى واجهات المحلات. يبتسم بائع يقف عند باب محله وهو يفرد أمامى القماش المطرز قائلا: «حرير طبيعى، جربيه»، ويحثنى على وضع قطعة القماش على كتفى كالشال. أنظر أمامى فأرى الحلى الفضية القديمة، بعضها مرصع بأحجار نصف كريمة، تلمع هى الأخرى. على يمينى محل للسجاد ينفع أن يكون مغارة على بابا فى فيلم أجنبى، فأكوام السجاد جاهزة لنختبئ وراءها إن مرّ الأشرار.

أكمل طريقى وأنا أستمع إلى أصوات الحارة المألوفة، البائعون ونداؤهم فربما نشترى من بضاعتهم المزركشة، بائع الخبز وهو يحمل القفص فوق رأسه وقد رص عليه الأرغفة الطازجة، صبى القهوة وهو يهرع بصينيته النحاسية التى ترتج عليها أكواب الشاى، السيدة العجوز التى يقال إنها فقدت عقلها حين مات حبيبها فى الحرب فأصبح هاجسها إطعام قطط الحى. أى حرب؟! لا أحد يدرى.

***

أتوقف وسط الشارع الضيق، فقد اختلطت عليّ الأماكن حتى أننى قلت لصديقتى التى تمشى معى «هنا فى دمشق القديمة» ثم سكت وأعدت الجملة مع التصحيح: «هنا فى خان الخليلى»، وأكملت الحديث وكأننى لم أنتقل فى لحظة إلى دمشق. فى الحقيقة أن فى كل زيارة لى إلى خان الخليلى أشعر وكأننى جلست على بساط علاء الدين فى بيتى فى القاهرة ونزلت بعد دقائق فى المدينة القديمة فى دمشق. تختلط عليّ الألوان ومحلات المجوهرات وأصوات البائعين، حتى أننى لا ألاحظ اختلاف اللهجة من شدة ملاحظتى لتشابه الحالة. فالشوارع ضيقة والمحلات صغيرة ومكتظة بالبضائع والبائعون لحوحون وصوت أذان المغرب يغطى على ضوضاء الخان لمدة دقائق ريثما يختفى نور الشمس فتضىء المحلات الأنوار فى واجهاتها.

أية مقارنة بين أحياء دمشق القديمة وبين خان الخليلى أو غيره من الأسواق الأثرية هى مجحفة بحق الطرفين، فهى مجحفة بحق دمشق لأن لا شيء بنظرى يقارن بسوق البزورية وأكوام البهارات الملونة تمتد على طوله حتى فسحة الجامع الأموى أمامه، ولا مساحة فى العالم تحتضن الأحاسيس الخمسة كما تحتضنها تلك السوق، فألوان الفستق الحلبى والمشمش المجفف لوحة للعيون، ورائحة القرفة وصابون الغار سحر للأنوف، وأصوات الناس والأذان كسمفونية كتبت حصريا لدمشق، وفى كل خطوة هدية من بائع، من هنا حلوى باللوز، ومن هنا كمشة تين مجفف، بينما تمر اليد فوق حبوب البن فتداعبها كأنها أحجار على وشك أن تضم فى عقد حول الرقبة. لكن للأمانة فإن مقارنة تلك السوق بخان الخليلى مجحفة أيضا بحق الخان لأنه فعلا مكان دافئ وجميل وملون، يدعو إلى الابتسام الدائم بسبب لهفة البائعين وشطارتهم وروح اللعبة وقت الفصال فى الأسعار.

***

بدأت أفهم مؤخرا أن ما يشدنى إلى أى مكان هو حالة إنسانية وحسية تجتاحنى فأشعر أنها تملأ قلبى بوجد وحس حقيقيين، طبعا أنا أحب جمال الشكل أو عبق الرائحة أو أصوات الناس والأذان أو لذة الطعم أو ملمس المعروضات الزاهية، لكن الحقيقة هى أننى فى بحث دائم عن تلك اللحظة التى أتواصل فيها مع شخص أو مكان من خلال موقف صادق لا مونتاج فيه. أن أنظر إلى داخل منزل بابه مفتوح على الحارة فأرى سيدة تنتظر من يسليها ويكسر من وحدتها، أن أدخل إلى محل صغير يبيع مستلزمات الخياطة فأجد البائع يغمس مزقة من رغيف خبز بلدى فى طبق الفول أمامه ويدعونى إلى أن أشاركه الوجبة، أن أكتشف أن بائع الورد الذى يقف عند ناصية شارع بيتى قد أعد باقة يعرف أننى سأشتريها كما هى، بحكم أننى أتردد عليه منذ أكثر من عشر سنوات وبات يعرف ما أريد. أن أجلس على الكنبة فى غرفة يلعب فيها أطفالى دون أن أتحدث معهم، فأنا فقط أشاركهم المكان وأملأ ذاكرتى المستقبلية بصورهم وأصواتهم التى سوف أسترجعها فى سنواتى المتقدمة، فأراها حينها على أنها أجمل فترات حياتى.

***

الغرق فى التفاصيل الحياتية فيه الكثير من الجمال، ففى أوقات الشجن أرانى أحن إلى أمور غير استثنائية على الإطلاق، أريد استرجاع ما يبدو لى اليوم أجمل الأحداث برتابتها المملة، بتكرارها وإعادة سردها وكأنها قصص من ألف ليلة وليلة. السوق بألوانها وأصواتها وروائحها التى لا تتغير مع الزمن، البيت بغرفه وقماش فرشه الذى تبهت ألوانه من الاستخدام، طبقى المفضل الذى فى طرفه كسر صغير جدا أعرف كيف حدث، فأنا أذكر كيف سقط من يدى دون انتباه، مساء عادى قرأت فيه مع الأولاد درس اللغة العربية، ثم حاولوا طبعا وكالعادة تأخير موعد النوم، فجلسنا معا دقائق إضافية وأنا أضحك فى سرى، لأننى أردت أن أمضى معهم هذه الدقائق تحديدا حتى أتذكرها بعد عشر سنوات أو عشرين.

***

هكذا يأخذنى خان الخليلى فى أقل من ساعتين إلى حارات دمشق القديمة مرورا بسوق البزورية ثم يرمينى فى بيتى، لا يهم فى أى بلد، حيث أمضى مساء عاديا، يتحول فى ذاكرتى استثنائيا مع أطفالى فى محاولة منى لأن أملأ قلبى بذكريات مستقبلية.. كلها بنكهة القرفة فى يوم بارد يدفئه صدق لحظات لا تعوض.
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات