على جانب الطريق تطل لافتة كبيرة ملونة، تحمل صورا لأشخاص كثيرين مبتسمين، وبها كلمة واحدة ذات حروف عريضة مبهجة: «السيرك». تقع اللافتة فى طريق عودتى اليومية من العمل، رغم ذلك، يفاجئنى وجودها فى كل مرة، أظل أتطلع إليها حتى أتجاوزها، وكأننى لم أرها من قبل، وأتوقع ألا أراها ثانية، أنتظر رحيلها مثل أشياء كثيرة ترحل عنا دون استئذان، ودون رجعة.
●●●
كنت أفكر كلما صادفتها أن السيرك أصبح جزءا من عالم شاخ، وانتهى وطواه النسيان، وأن اللافتة سرعان ما ستتم إزالتها لتُستَبدَل بها أخرى تحمل عنوانا مختلفا، وأن الأبنية والخيام التى تطل من خلف السور سوف تُهدَم، لتحل محلها أخرى جديدة تحوى ألعاب الفيديو، والبلاى ستيشن، وغيرها من وسائل الترفيه الإلكترونية. كنت أتخيل آسفة مكان السيرك، وقد أصبح مطعما أو مقهى كبيرا، يقصده الناس ليتجمدوا أمام اللاب توب، والآى باد، ومرادفاتهما المتلاحقة، التى لا تكف الشركات العالمية الكبرى عن تطويرها.
خاب ظنى مع الوقت، فقد مرت أيام وشهور وأنا أعبر الطريق نفسه، أروح وأجىء، بينما اللافتة على حالها دون تغيير. رغم كل وسائل الترفيه الحديثة التى انتشرت وغزت البيوت، ظل السيرك صامدا على وجه الأرض، عامرا بالصخب والمرح؛ مروضو الأسود والنمور يستعرضون سطوتهم وشجاعتهم، ولاعبو الأكروبات يتأرجحون فى الهواء بثبات، والساحر يقدم فقراته المعروفة.. ينطبع كل هؤلاء على اللافتة الكبيرة المضاءة، وتظهر صورهم فى الإعلانات التى توزع على المارة والعربات أمام البوابة، أعضاء السيرك التقليدى حاضرون بلا نقصان، حتى وجه المهرج المألوف، بالأنف المكور الأحمر والوجه شاهق البياض، والابتسامة الطيبة التى تسع الحزن والفرح فى آن واحد، موجودة فى صدر الصورة.. يفتح السيرك جوفه ويضم الجميع.
هكذا أدركت بعد ما يقرب من سنة كاملة من التوقعات والتخمين، أن الترابيز وألعاب الهواء والحيوانات المتوحشة لم تفقد بعد بريقها، لا يزال الأطفال يحبونها، يطلبونها وينبهرون بها، ولا يزال الكبار يذهبون إليها فى حنين واشتياق، يلاقى السيرك إقبالا واستحسانا وإعجابا من ناس كثر، حتى من أجيال نشأت على تقدم تكنولوجى هائل، وأطفال يتعاملون مع الأزرار والشاشات كأنما هى مطبوعة فى أدمغتهم منذ الولادة.
●●●
يعود السيرك بجماهيره إلى التحديات القديمة المرتبطة دوما بالمكان والتوقيت، يقدم عالما متناسقا من الأجسام والعضلات والمهارات، ويصنع بطولة حاضرة تجرى وقائعها أمام الناس مباشرة: الآن.. هنا، على مسمع ومرأى من الجميع، لا عوالم افتراضية يمكن للمشاهد التحكم فيها، لا شاشات صغيرة تبتلع المرء أمامها ولا فضاء إلكترونى يستحيل لمسه، لا استعادة لمشهد سابق، لا محاولة للقفز على ما هو موجود وتجاوزه، ولا إمكانية لإيقافه فترة ثم العودة إليه.
يخضع الأمر فى أغلب الأحوال لقانون العرض والطلب؛ ومع ذلك، ورغم ثورة التكنولوجيا الكبرى التى تقدم لنا ما لذ وطاب فى أماكننا، ورغم استيلائها على جزء واسع من حياتنا وسيطرتها عليه، ورغم أنها لم تدع فى صدورنا فسحة للتفاعل مع أشياء حية، حقيقية لا يمكن إغلاقها أو تغيير مسارها بالضغط على زر، رغم كل ذلك يقبل قسم من الناس على السيرك فيحفظونه من الانقراض؛ ربما لكونه يحررهم ــ حتى ولو لفترة وجيزة ــ من حال الجمود المستمر، ومن قيود التكنولوجيا الحريرية التى تكبلهم وتشدهم إليها فى الخفاء، ينتشلهم من وحدة مزمنة ويريهم أن ثمة تواصل ممكن بين آخرين، دون أزرار. ربما يقبلون عليه لأنه يضعهم أمام تلك القدرات الفطرية الكامنة، ويشعرهم بملكاتهم التى أوشكت على الانقراض من فرط ما استخدموا من آلات. بدأت الحياة بالفرد، اخترع الفرد الآلة، ثم صارت الآلة جزءا مهما من حياة الفرد، فإذا بها تصبح بعد قليل أكثر أهمية منه، ثم تحل محله. يدفع السيرك ببشر متعاونين، يعتمدون على بعضهم البعض ويتبادلون الثقة، نادرة هى الآلات الحديثة فيه، وإن وجدت فهى لا تلعب أبدا دور البطولة.
●●●
على كل، ليس السيرك وحده الذى لا يزال يجتذب الناس بصدقه وطبيعيته ووجود أبطاله الفعليين، كثير من الناس يفضلون الحفلات الحيّة التى يقف فيها المغنى أمامهم وجها لوجه، فيصرخون، ويجد صراخهم صدى لديه، يمتدحونه ويلقون عليه الورود، أو حتى يحنقون عليه ويرفضونه، يتكبدون عناء الخروج من المنزل رغم وجود الأسطوانات المدمجة التى يمكن من خلالها الاستماع إلى عشرات الأغانى الحديثة فى أى وقت. هناك أيضا من الناس من لا يزال يفضل الذهاب إلى المسارح؛ حيث الارتجال وسرعة البديهة والتواصل المباشر بين أبطال العرض والمتفرجين، وحيث النص قد يتغير بتغير الظروف وتبعا لحالة ومزاج الجمهور، يقصد هؤلاء المسرح رغم سهولة انتقاء وتحميل وحفظ المسرحيات المتنوعة من مئات وآلاف المواقع على الإنترنت.
يختار الناس تلك الأمكنة؛ حيث الترقب والفضول واحتمالية حدوث شىء جديد خارج عن الحسابات المعقودة سلفا، وحيث المادة الفنية طازجة، لم يقم أحد بتعليبها وتغليفها وحفظها. يذهبون حيث الأمور أكثر سهولة وتلقائية، يخرجون كل من جزيرته المنعزلة، ويتجردون لساعات قليلة من التوتر المكتوم، ومن التعقيدات، ويتفاعلون مع من هو قادر على رد التفاعل.
الوجود الإنسانى يصنع شيئا مختلفا وعظيما.. قررت منذ أيام أن أتوقف أسفل اللافتة بعد أن اختنقت أمام الشاشات والمواقع الاجتماعية، خرجت من العربة ووقفت أمام شباك التذاكر وقطعت تذكرة للعرض القادم.