القرار الذى اتخذه هانى شاكر بمنع أغانى المهرجانات وحديثه عن أسباب المنع أعطى انطباعا بأننا نعيش داخل أحداث رواية من روايات الديستوبيا الشائعة هذه الأيام.
والديستوبيا، عكس (اليوتوبيا) أو المدينة الفاضلة التى يبشر بها الفلاسفة وبعض أدباء الخيال العلمى وأبسط تعريف لها أنها (المكان الخبيث).
وفى هذا النوع من الروايات يبتكر المؤلفون بلدانا تعيش تحت قبضة الرقابة ويرتدى سكانها زيا موحدا ويتفشى بينهم وباء أو مرض خبيث وفيها تضطر السلطات لاتخاذ إجراءات حماية تضع السكان جميعا تحت وطأة الكوابيس المتلاحقة وتستغل فيها وسائل الإعلام للتبشير بالخوف ونشر الشائعات وغسيل الأدمغة والحديث دائما عن أعداء محتملين يستهدفون الهوية والذات الوطنية وأمثال هؤلاء لا يمكن مواجهتهم إلا ببث الأناشيد الصباحية وحصص التربية الوطنية أو بنصوص أدبية سابقة التجهيز تقوم على أنظمة التوحيد القياسى التى يضعها الخبراء المعتمدون.
ومن يرجع لبعض نماذج الأدب الألمانى المكتوب بعد الحرب العالمية الثانية سيجد نفسه أمام سيناريوهات لا تختلف كثيرا عما يرغب نقيب الموسيقيين فى إقراره، فالمغنى القديم يصور فنانى المهرجانات فى صورة (عدو الشعب) وكأننا نشاهد نسخة معاصرة من مسرحية هنريك إبسن الشهيرة التى يسعى فيها البطل لاستغلال سلطاته لإدانة من يخالفه فى الرأى ويحرض عليه الناس متهما إياه بكل التهم التى تظهره كمنبوذ يستحق الرجم.
وفى اعتقادى أن السيد المبجل هانى لا يختلف كثيرا عن أصحاب السلطة الإعلامية فى رواية (مدينة الملائكة) للكاتبة الألمانية لكريستا فولف وهى رواية عن الجحيم الذى خلفته النازية فى نفوس الأفراد بسبب تفشى مختلف أشكال الرقابة والمنع باسم (التوجيه) والإرشاد وكلها أدوات تنزع عن المواطنين صفة الإنسانية وهى تجمعهم حول أغانٍ موحدة ذات طابع أيديولوجى كانت تحفظ عن ظهر قلب لأن كل الأمور ينبغى أن تسير وفق السيناريو المعتمد والمرسوم سلفا.
وهذا بالضبط ما يريده هانى شاكر باسم حماية الذوق العام ونحن لا نريد لبلدنا أن تغرق فى الديستوبيا أو فى سيناريو لا يبتعد كثيرا عن المكتوب فى رواية (١٩٨٤) جورج أوريل وما يريده بطلها وينستون سميث الذى يدير وزارة الحقيقة باسم مسئولية كتابة التاريخ وحماية صورة الأمة أمام الأجيال.
لأن مصر ببساطة بلد غنى بثقافته وبتراثه المتعدد الذى يعتمد فى ثرائه على تنوع المحتوى
وبشهادة الأكاديميين فإن واحدة من أهم فضائل ومميزات الغناء أو الأدب الشعبى أنه يقاوم كل أنظمة الرقابة والاعتراف ويكتسب قيمته من قدرته على اختراق المحرمات الاجتماعية بل والسياسية أيضا بفضل ما فى الخيال الشعبى من قدرة على اللجوء للمجاز وآليات التحايل.
ومن المثير للشفقة أن يتصور هانى شاكر أنه صاحب رسالة ومسئولية أمام التاريخ انطلاقا من موقعه النقابى.
والمؤسف أن تصوره الوحيد لممارسة هذا الدور ينحصر فى آليات المراقبة والمنع والعقاب ولا يتوسع ليؤدى أدوارا نقابية أخرى تحمى مصالح أعضاء نقابته الذين يعانى أغلبهم من البطالة فى ظل الاعتماد المتزايد على الأجهزة التقنية بدلا من العازفين وعلى أنظمة الدى جى بدلا من التعامل مع مطربين يقدمون الغناء الحى.
ومن المفارقات المدهشة أن ثورة النقيب أدت لنشاط مضاد من قوى الثورة المضادة التى خالفت تعليماته وأعطت مساحات واسعة للأصوات التى أراد حصارها فى نطاق (الهامش) وأصبحنا يوميا ننام ونصحو على أبطال هذه الظاهرة وهم يتحدثون عن تجاربهم مع وجوه إعلامية لها بريقها على الشاشات وبعد أن كانت هذه البرامج تناقش أغانى المهرحانات كظواهر اجتماعية وفنية أصبحت تبرز أبطالها كنجوم وضحايا وأصحاب حقوق ثقافية ولا يجوز حرمانهم من التعبير.
ومن جديد اكتسب فنانو المهرجانات أرضا جديدة زادت من حالة التعاطف معهم بدلا من أن تحقق أهداف النقيب الذى لاحقته سخرية وسائل التواصل الاجتماعى، وكشفت أن خفة دم الشعب المصرى لا تزال بخير وأنها ستبقى كذلك.
ويحمد لـ(غزوة هانى) الأخيرة أنها ساهمت فى إبراز وإحياء تراث غنائى مهمل من أغنيات الأفراح وأغانى مقاهى العشرينيات التى كانت تسمى (الهنك والرنك) وتكفل الزمن بإزاحتها وحصر تأثيرها فى الأرشيفات لكن تصريحات النقيب إعادتها إلى الواجهة من جديد عملا بالمثل المتوارث (تيجى تصيده، يصيدك).