في زَمَن ولّى؛ احتلت حركة ترقيات المُوظفين الحكوميين ودرجاتُهم مساحةً كبيرةً من اهتمام المُجتمع. المُعيَّن في دَرجةٍ ما "مربوط عليها"، تسكُن بينهما علاقةٌ متينة، وكأنه صار مُقيدًا بها وإليها، فإذا هي جزءٌ أصيلٌ من كيانه. إن تقدَّم خاطبًا؛ قيَّمته العائلةُ تبعًا لها، وقدَّرت شأنَه بقدرها، كلَّما ترقَّى درجةً علا مقامُه ولقي القبولَ والترحابَ، وبات من القادرين على الوفاءِ بمهامِ الزواج ومُتطلبات البيت.
• • •
تبدلت الأيامُ ولم تعد للدرجةِ أهميتها التي كانت، ولا احتفظت الوظيفةُ الحكومية برونقها القديم وبريقِها؛ فإن فات "الميري" لم يجد من يتمرَّغ في الترابِ وراءه. صار السؤالُ الأهم؛ كم يبلغ الراتبُ أو الدخل الشهريّ؟ لا تهم المصادر ولا التفاصيلُ؛ إنما مستوى المعيشة المرجو.
• • •
الحَرَكةُ اسم مَرةٍ من الفِعل حرَّكَ، والفاعل مُحرك بكسرِ الراء، والحَرَكَةُ في ذاتها نقيضُ الثباتِ والسُّكون، وفي مديحها يأتي المأثور الشعبيُّ "الحركة بركة" مُنبهًا لما في بذلِ الجهدِ من فوائد، فالحركةُ في معناها الأبسط صحةٌ، وحيويةٌ، ومزاج أنقى وصدر أرحَب، وفي فحواها الأكثر تعقيدًا؛ هي بوابةٌ لمد الجُسورِ وبناءِ العَلاقات والتقاطِ الفُرص.
• • •
ثمَّة حركةٌ مُتوقَّعة؛ تكون في غالب الأحيان منطقيةً، يمكن استنتاجُها بناءً على المُعطيات المَطروحةِ، وثمَّة حركةٌ مُفاجِئةٌ؛ يأتي بها المرءُ كرد فعل تلقائيّ، وربما تَحَقَّق من خلالها فوزٌ ثمين. هناك أيضًا حركة نصف كم؛ والقصد أنها مُنتقَدةٌ مَكشوفةٌ، وحركةٌ بائخة؛ فيها ما يبعث على الرفضِ والنفور.
• • •
الحركةُ السطحية تقتصر على الظاهِر بينما الباطنُ ساكنٌ، أما الحركةُ الباطِنيةُ فلا تظهر للعيان؛ وكلاهما خادع مكير، لا يمكن التعويل عليه دون كشف واستقصاء. إذا جاء الحديثُ عن حركةٍ توافقية؛ فأفضل ما تُلاحَظ فيه رياضةٌ مثل الجمباز الإيقاعيّ، وفن مثل دق الطبول؛ إذ الأطراف الأربعة تؤدي حركاتٍ متباينة، لا يدرك صعوبة الجمع بينها إلا من حاولَ وأخفقَ وأعاد المحاولة.
• • •
سَمِعت من أصدقاءٍ وصديقات عن شهادة التحرُّكاتِ التي لا بد وأن يتحصَّلَ عليها بعضُ المسافرين للمرة الأولى من مُجمَّع التحرير؛ وتعجَّبت ولم أعرفْ عنها المَزيد. كلَّما ذكرها أحدهم استحضَرت على الفور فيلمَ "الإرهاب والكباب" للمبدع وحيد حامد، وتواردت إلى ذهني الحركاتُ البهلوانية التي اضطُر إليها البطلُ المَغلوبِ على أمره، المُساقُ بأكتافِ وأجسادِ الآخرين؛ واحدةٌ عنيفةٌ حادة، وأخرى انسيابيةٌ مَرِنة، وثالثةٌ عشوائية، وعاشرةٌ أشبه بالتشنُّجات.
• • •
صارت عادة عند كثيرين أن يتقصّوا خارطةَ الأحوالِ الجوية. يسألون عن حركةِ الرياح ودرجة الحرارةِ وفُرصِ سقوط الأمطارِ؛ فرحلةٌ تستغرقُ دقائقَ معدوداتٍ قد تطول ساعات ما تكوَّنت بركُ مياه في الأنفاقِ وعند مطالعِ الكباري ومنازلها، وما تعطَّلت البالوعاتُ عن استقبال الفائض، ولفظت ما في جوفها. صارت عادة أيضًا أن ينتبه السائقون إلى حركةِ المرور على المَحاورِ والطُرق الرئيسة؛ تلك التي قد تُفضي بهم إلى قضاء بعضَ يومٍ في انتظارِ مُرور مَوكِب أو تشريفة.
• • •
ليست حركةُ المُرور بقاصرةٍ على البَرّ فمثلها في الجَوّ والبحر. ربما تُغلَق المضايقُ المائية والمَمراتُ الملاحية، ويُحظَر المجالُ الجويّ ما قامت حربٌ، أو تحرَّش بلدٌ بآخر، والحالُ حاضرةٌ في اعتداءِ روسيا على أوكرانيا، وتبادلها التهديداتِ مع دول الغرب. لا شكَّ فيما لحركةِ السفُن والطائرات مِن أهمية، إنما لا يعبأ بها غالبُ الناس؛ إذ هم مشدودون إلى الأرضِ بأسبابٍ مُتعددة.
• • •
لا تقتصر الحركة الدائبةُ على كوكبنا؛ فكواكب أخرى تتحرَّك، وأجرامٌ وأجسامٌ تحوم وتنطلِق وتخترق الفضاءَ، قد يهدد بعضُها الوجودَ البشريّ في لحظةٍ وقد يمضي بسلام. لا ِزلت أشعر بالامتنانِ لحِسّ السُخريةِ العميقِ في فيلم: "لا تنظر إلى أعلى"، حيث استعراضٌ سوداويٌّ النزعةِ، مُغرِقٌ في العَبَث، يفضح ما وَصَلَت إليه المُجتمعاتُ الحديثة من أوضاعٍ مائجةٍ مُضطربةٍ، ومن فَوضى مُخزية تتعلق بترتيب الأولويات. يجيء المجتمع الأمريكيّ بإداراته المُتخبّطة في الطليعة وبأثره يصطفُّ التابعون.
• • •
لا يسعني إغفالُ حركةٍ دوريةٍ يُرى أثرها في الكُشوفِ والأوراق الرسميةِ؛ تُلقي بواحد في الصعيد، وتأتي بآخر إلى الدلتا، وتبعث بثالث على الحدود. تلك هي حركةُ النيابات والتكليفات التي جرى العرف أن ينخرط فيها خريجوا كليات الطب، ومربط الفرس أن نظام التوزيع قد اعترته تغيرات هائلة في الآونة الأخيرة، أسفرت عن مُشاداتٍ ومَعارك ومُنازعات؛ أظنُّ بعضَها لم يزل قائمًا حتى الآن، ولم يزل الأطباءُ في معاناةٍ وبؤس يفاقمان دوافعَ الهجرةِ، ويحبذان البحثَ عن سبل النجاة.
• • •
إذا كانت الحركةُ اسمًا، فالتحريكُ مَصدر، وإذا جاء ذكره على لسانِ المتحادثين، استدعى الأكبر عمرًا "تحريك الأسعار"؛ ذاك التعبير المُخادِع الذي استخدمه السادات مستهدفًا اتجاهًا واحدًا هو رفعها. لم يكن التلاعب اللفظيّ سوى محاولة لتجنُّب غضبةٍ شعبيةٍ وشيكة، ولم ينفك التحريكُ من يومِها مُتواصِلًا ومُخيفًا..