إفلاس ثلاثة بنوك أمريكية واستمرار العدوى والمخاوف من خلق أزمة مالية عالمية جديدة فى وقت يعيش العالم كابوسا سياسيا واقتصاديا يجعلان البحث عن دروس من الأزمة أمرا ضروريا؛ فيخطئ من يعتقد أنه بعيد عما يجرى خاصة لو كان فى وضعية اقتصادية معقدة.
فقد أكدت الأزمة الأخيرة أن ما يرفع من مبادئ عن التحوط واختبارات التحمل والمعايير الدولية من بازل وغيرها مجرد أسلحة وقائية قد تتعطل وتفقد جدواها فى حالات كثيرة، فالمضاربات العقارية والأموال الساخنة قصيرة الأجل بفوائد كبيرة وحجم الائتمان الكبير مع ارتفاع الودائع وفاتورة الديون الخارجية قادرة على العصف بأى اقتصاد أو بنك أيا كانت ملاءته المالية، وتتحول تلك الأرقام إلى شبح يلتهم الاحتياطيات، ويفقد الثقة ويجعل الحكومات فى وضع الدفاع والتغطية والتى لن تخمد الأزمة بشكل كلى، ومن ثم تكون أموال المودعين هى الضحية.
رفع الفائدة لن يجدى فى حالات كثيرة. والسقوط الحالى لعدد من البنوك العالمية كان هو الركيزة والمتسبب فيه والسنوات الأخيرة أكدت الأمر فقد تعرضت بنوك لبنان لإفلاس كامل بسبب رفع الفائدة بنحو 7 فى المائة قبل سنوات الانهيار الكامل الحالى، مع دمج الاحتياطى الحكومى مع أموال المودعين بالعملة الأجنبية ليرتفع الاحتياطى النقدى الأجنبى بشكل خيالى مع احتفالات ومؤتمرات جعلت حاكم مصرف لبنان ذا قدرات خارقة حتى وصلت الحالة إلى إفلاس الدولة وتحقيقات بشأن الفساد لصاحب المنصب الأهم مع اتهامات من خمس دول أوروبية على الأقل. وأكاد أجزم بأن هناك وقائع مشابهة فى عدة دول لن تنجو من الأزمة إلا لو فتحت تحقيقات فى الائتمان السياسى والتركز فى منح الائتمان واسترداد أموال الفساد المالى.
المراهنات العقارية كانت سببا فى أزمة 2008 والفائدة المرتفعة حاضرة بقوة فى الأزمة الحالية والعيش على الأموال الساخنة سيفوق كل المسببات فهو لعنة اقتصادية التعافى منها يحتاج إلى إنتاج حقيقى وفعلى وإصلاح هيكلى يسبقه قوانين محاربة للفساد. فمشكلة السيولة الناجمة عن الفائدة مع تراجع فى توظيف تلك الأموال فى استثمار حقيقى قد تنفجر فى البنوك لانعدام الفارق بين الفائدة المرتفعة، وفائدة القروض طويلة الأجل والأصول التى استثمرت فيها عندما كانت الفائدة منخفضة. وكل بيانات البنوك عالميا تعانى من تلك الوقائع إلا فى بعض الاقتصاديات التى لا تفصح عن أرقامها بشفافية.
فقد سقطت نمور آسيا سابقا بسبب فقد التوازن الاقتصادى وتعرضت لنكبة مع اشتعال سعر الدولار وعدم وجود غطاء نقدى حقيقى وأدوات اقتصادية حقيقية، والواقع العالمى الحالى مشابه تماما فالولايات المتحدة الأمريكية عملت مؤخرا على تعظيم الدولار وتحويله إلى ديناصور يبتلع اقتصاديات العالم وهو ما دمر عملات دول وجعل المراكز المالية لبعض بنوكها مكشوفا.
الجميع كانوا يعلمون أن حملة رفع أسعار الفائدة من قبل الاحتياطى الفيدرالى ستؤدى فى النهاية إلى انهيارات، وهو ما حدث الأيام الماضية من انهيار بنك سيلكون فالى المصرف رقم 16 فى الدولة الأقوى عالميا وما تلاه من انهيارات.
حمت البنوك المصرية الاقتصاد ودعمته فى أزمات متتالية فى السنوات الأخيرة بعد عمليات إصلاح كبيرة رفع من كفاءتها فى تحمل ضربات داخلية وخارجية مستمرة، منها الأزمة المالية العالمية 2008 والتى نجت منها مصر وحافظت على معدلات نمو مازالت هدفا.
ولم يفقد عملاء البنوك المصرية على مدى تاريخها أموالهم مثلما يحدث فى أسواق مجاورة وبنوك أفلست وتعثرت، فعندما تعثرت بعض البنوك واندمجت واختفت من السوق، لم يشعر العملاء بإفلاس تلك البنوك «النيل ــ مصر إكستريور ــ المهندس ــ التجاريين» وغيرها من البنوك، وضمنت الأموال فى قضايا نواب القروض وشركات توظيف الأموال وغيرها. وأصدرت قوانين منظمة خفضت من مخاطر الإفلاس وحدت من مشاكل بالجملة فى اقتصاديات أخرى. لكن استمرار الأزمات العالمية يجعلنا لسنا بمنأى عما يحدث.
المؤسسات الكبرى هى الخاسر الأكبر من الأزمات الاقتصادية وهو ما ينعكس على الجميع فى النهاية، لكن القرار وتعامل الإدارة الأمريكية فى مثل هذه الأزمات بطبيعة الحال يكون بطيئا نوعا ما لأن مثل هذه الأمور ذات صلة وثيقة ببنيان السياسة الأمريكية وقد يكون استمرار سياسة الفيدرالى الأمريكى حاسما فى ظل حرب مشتعلة العالم كله يدفع ضريبتها.
الصدمات الاقتصادية المتتالية ألقت كآبة على الاقتصاد الكلى مثل تراجع الصادرات، وتضخم الديون، وانخفاض قيمة العملات، وهروب رأس المال، وزيادة العجز المالى. كل هذه العوامل إما دفعت البلدان الضعيفة بالفعل إلى التخلف عن السداد، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير، كما رأينا فى حالة سريلانكا ولبنان، أو أجبرتها على ترتيبات الاقتراض مع المقرضين الدوليين، ويقدمها بشروط صارمة للغاية تجعل النيران تدخل كل البيوت.
الركود والتضخم والأزمات تكرر على مدى التاريخ والأزمات المالية ستحدث مرة أخرى لا محالة، ولا أحد يمكنه التنبؤ بمدى سوئها، لكن التعافى يتوقف على طريقة العلاج ورشادة الإدارة دون إنكار أن أزمة اليوم مركبة وأن الجميع يريد العيش مثل النجوم التى نتبعها على الشاشات والدول والأفراد ينسون أن هناك ضحايا وأن ما تقترضه يجب سداده بفائدة أعلى، حتى لا نرى مشهد العملاء أمام البنوك لسحب إيداعاتهم وخسارة أموالهم هو الكابوس المخيف لأى اقتصاد، ويهدده بخسائر ثقيلة ويجعله فى وضعية غير مأمونة العواقب ويزيد من الأوقات الحرجة والمخاطر.