هل باتت الصين الملاذ الدولى الأخير، والوحيد، لإيران فى مجابهتها الراهنة مع الغرب؟
تقريبا.. فروسيا بدأت تبتعد رويدا رويدا عن استخدام «الورقة الإيرانية» بعد أن اشتمّت روائح عطر فى السياسة الجديدة لإدارة أوباما، وبدأت تمنّى النفس (مجددا) باعتراف واشنطن بمناطق نفوذها فى مناطق الاتحاد السوفييتى السابق.
وهذا أمل تعزز مع التوصل إلى الاتفاق النووى الجديد بين الطرفين، ثم مع التحولات لصالح موسكو فى جمهورية قيرغيستان والتى يبدو أنها حظيت بـ«مباركة» واشنطن.
موسكو، وعلى رغم أن لها مصلحة فى انفجار الصراع الإيرانى ــ الغربى لأن ذلك سيرفع أسعار النفط إلى مستويات شاهقة، لا ترتاح إلى فكرة وجود إيران إسلامية نووية قرب حدودها القومية.. ولذا، فهى تبدو مستعدة للانحياز نسبيا إلى الموقف الغربى، إذا ما تلقت إغراءات تسيل اللعاب.
والدول الأخرى التى لها مصالح اقتصادية ونفطية مع إيران، كالبرازيل والهند وتركيا، أو إيديولوجية (تحررية) كفنزويلا وكوبا وبقية الركب اليسارى الأمريكى اللاتينى، أو إستراتيجية كسوريا، تستطيع أن ترفع معنويات طهران، لكن ليس فى وسعها التأثير على موازين القوى على الأرض، ناهيك بتغييرها.
وحدها الصين تبدو القوة الدولية المؤهلة لتشكيل صمام أمان لإيران لمنع عزلها بالكامل دوليا. وهذا بالتحديد ما تفعله بكين الآن، وما يدفع واشنطن وتل أبيب إلى تركيز جل جهودهما عليها.
فأوباما، وقبل أن يُعلن قبل يومين أنه قرر فرض عقوبات اقتصادية جديدة على إيران بعد أن «اكتشف نوايا» عسكرية نووية جديدة لديها، كان يعقد «قمة هاتفية» مطوّلة مع القادة الصينيين ليتمنى عليهم عدم عرقلة العقوبات.
وقبل أوباما، كانت إسرائيل تشق طريقا دوليا بين تل أبيب وبكين، وتملؤه بورود الوعود باستئناف تزويد هذه الأخيرة بالتكنولوجيا العسكرية المتطورة (على رغم اعتراضات واشنطن)، فى حال قامت برفع الغطاء الدولى عن إيران.
وهكذا، وبين ليلة وضحاها، تحوّلت الصين إلى «صانع الملوك» أو بيضة القبان فى الشرق الأوسط. وهذا أمر كان متوقعا.. فالعقوبات الاقتصادية من دونها لا تساوى شيئا، لأنها قادرة على توفير المنافذ والمخارج الكاملة لها، هذا عدا عن كونها المستورد الأبرز للنفط منها والمُصدِّر الأهم لمشتريات الأسلحة خاصة الصاروخية منها إليها.
لكن، هل سترضخ بكين للإغراءات فتبيع جلد طهران، على رغم مصالحها النفطية والاقتصادية الواسعة معها؟ لكى تفعل هذا، يجب أن تكون الأرباح ضخمة وتفوق حتما الخسائر المحتملة للابتعاد عن هذه الأخيرة.
وهذه الأرباح تشمل، من ضمن ما تشمل، توفير مداخل مستقرة للصين إلى نفط وغاز الشرق الأوسط وأفريقيا، وتسهيل خروج جزيرة تايلاند من منظومة الأمن العسكرى الأمريكى ودخولها الفلك الصينى عبر «فنلدتها» (أى تحييدها على النمط الفنلندى خلال الحرب الباردة)، والاعتراف بدور الصين المُهيمن فى حديقتها الخلفية فى شرق وجنوب شرق آسيا.
بالطبع، إدارة أوباما قد لا تكون مستعدة تماما لتلبية كل هذه الشروط، خاصة مع الضغوط التى تمارسها اللوبيات التايلاندية القوية وتلك التابعة للمجمع الصناعى العسكرى فى الولايات المتحدة. لكنها فى الوقت نفسه لا ترفضها من حيث المبدأ، فى إطار إطلالتها الإستراتيجية الجديدة على نظام عالمى ليبرالى وتعددى إلى حد ما.
وهذا ما يجعل إيران قلقة للغاية هذه الأيام من الغزل الأمريكى ــ الإسرائيلى للصين. وهى على حق: فمن دون بكين ستكون بلاد الخمينى أشبه بحمل ضلّ طريقه وسط غابة تعج بالذئاب الجائعة.
لكن، وفى المقابل، ثمة شبه إجماع بين المحللين والسياسيين فى الغرب والشرق الأوسط، على حد سواء، بأن العقوبات الاقتصادية لن تنجح فى حمل إيران على وقف أو حتى تأجيل برنامجها النووى (كما فعلت عام 2003).
صحيح أن هذه العقوبات قاسية وعنيفة وتسفر فى كثير من الأحيان عن كوارث بشرية، كما مع سقوط الطائرات المدنية الإيرانية بسبب نقص قطع الغيار؛ وصحيح أيضا أن هذه العقوبات ستكون أقسى بما لا يُقاس إذا ما شملت واردات البنزين، إلا أن النظام الإيرانى أثبت مرارا وتكرارا طيلة العقود الثلاثة الماضية أنه يستطيع التكيّف مع الصعوبات والعراقيل الخارجية.
لا بل يقول بعض قادة النظام الإيرانى إن هذه العقوبات تندرج فى حكمة «رب ضارة نافعة»، لأنها تُجبر الإيرانيين على زيادة الإنتاج الصناعى والزراعى وعلى الاعتماد على الذات لتطوير تكنولوجيا ملائمة لظروف الجمهورية الإسلامية.
هل هذا المنطق فى محله؟.. هو كذلك لو أن المسألة مُقتصرة فقط على العقوبات. فالتحديات الخارجية لدى الشعوب تستثير بالفعل إرادة المقاومة لديها وتدفعها إلى الاستجابة إليها بطرق إبداعية. هذا ما حدث، على سبيل المثال،فى الاتحاد السوفييتى السابق حين أدى الحصار الاقتصادى الخانق عليه غداة الحرب البلشفية العام 1917 إلى ولادة القطاع الصناعى الضخم المستند إلى العلوم المحلية.. وهذا ما يحدث فى كل الدول خلال الحروب، حيث تفرض الحاجة اختراع أو تطوير القطاعات الإنتاجية المحلية.
بيد أن المسألة بالنسبة إلى النموذج الإيرانى لا تقتصر على العقوبات، بل هى تجر وراءها ما هو أخطر بكثير: ما يكمن فى تضاعيف هذه العقوبات من أفخاخ هدفها دفع النظام الإيرانى إلى الدخول فى سباق عسكرى ومالى مع قوى تفوقه قوة ومِكنَة بمئات المرات.
وفى مثل هذا السيناريو، تجد طهران نفسها مضطرة إلى إنفاق المبالغ الطائلة على التسليح العسكرى (سواء الإنتاجى أو الاستيرادى)، كما على البرامج النووية، على حساب خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية. كما تجد نفسها أيضا مدفوعة إلى تخصيص أموال طائلة لتمويل سياسة خارجية تصب فى خانة المجابهة العامة مع الغرب، ليس فقط فى منطقة المشرق العربى بل أيضا فى مناطق قصية فى أمريكا اللاتينية وشرق وجنوب شرق آسيا.
هذه النقطة، أى سباق التسلح العسكرى والاقتصادى المفروض على إيران، لا تُطرح كثيرا بسبب حماوة المجابهة مع الغرب، لكنها تناقش فى ردهات السلطة وكواليسها فى طهران. أو هذا على الأقل ما اكتشفه كاتب هذه السطور حين اشترك السنة الماضية مع مسئول إيرانى رفيع فى ندوة فى واشنطن حول النفوذ الإيرانى فى الشرق الأوسط.
فحين أثرنا معه مسألة سباق التسلح، تردد قليلا ثم اندفع إلى القول بأن القيادات العليا الإيرانية تعى هذا الخطر، خاصة بعد أن أنزله معارضو الرئيس نجاد من علياء النخبة إلى حوارى الشارع خلال الاضطرابات الأخيرة (عبر رفع شعار «إيران قبل غزة ولبنان»). بيد أنه ألمح فى الوقت نفسه إلى أن النظام لا يستطيع تجنّب هذه اللعبة لأن ذلك قد يعرّض وجوده ذاته إلى الخطر.
وهذه الإلماعة الأخيرة، بالمناسبة، هى نفسها التى كان يكررها النظام السوفييتى الذى كان يعلم هو الآخر أنه عالق فى فخ «وصفة سرّية» لإطاحته، لكنه كالفراشة التى تنجذب إلى الضوء الكهربائى، لم يستطع لا تجنبّها ولا تغيير قواعدها.
إنها «الوصفة السرية» نفسها.. وبحذافيرها الكاملة أيضا.