العالم ملعب أطفال - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:18 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العالم ملعب أطفال

نشر فى : الأربعاء 18 يوليه 2018 - 10:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 18 يوليه 2018 - 10:45 م

تصيبنى ملاعب الأطفال بخليط من الفرح والشجن، فمن جهة تداعب الملاعب حواسى فأرى الألعاب وأسمع أصوات الأولاد وأشم رائحة التراب وشقاوتهم، ومن جهة أخرى تذكرنى الملاعب أننى لم أعد أنا نفسى أتعلق على الأرجوحة وأرمى قدمى عاليا فى محاولة منى أن ألمس السماء. أصبحت مشاهدة للعب غيرى، لم أعد مشاركة فى اللعب والمرح.
فى كل مرة أمشى فيها قرب ملعب للأطفال تتداخل فى قلبى الطفلة والأم، وأغمض عينى علنى أجد نفسى بعد غمزة جالسة أعلى الزحليقة الحمراء، أنظر إلى الملعب من فوق فأرى أصدقائى وهم يحاولون أن يختبئوا خلف الأشجار. أفتح عينى وأبحث عن طفلتى التى يقولون إنها تشبهنى كثيرا فأرى بعض الصور التى تقف فى إطار فى منزل والدى وقد دبت فيها الحياة: طفلة بشعر كثيف تركض حول الألعاب. لكنها ليست أنا، أنا أمها لكننى أيضا أمى وهى تراقب طفلتها التى كنتها.
أظن أن باستطاعتى أن أختزل ذكرياتى وتصورى عن الطفولة فى ملعب، لا يهم أين هو، فها أنا أعيش اليوم فى القاهرة حيث لم أمض طفولتى إنما بنيت تصورا بصريا عن لعب الأطفال وركضهم وحتى شجاراتهم التى تنتهى فى كثير من الأحيان عند بائع البوظة على الطرف المقابل، فما من شجار لم يحله كأس ملىء بالحلوى المثلجة.
***
أردد طوال الوقت نصيحة لنفسى بأن أخلى بعضا من يومى ومن الضجة التى تملأ رأسى وأفسح المجال أمام الحاضر، الآن، أن أتمرغ فى حب اللحظة بدل أن أترقب تاليتها. أنجح فى ذلك أحيانا فأقف أمام شمس تسطع من غرفة أطفالى وأحاول ألا يرونى. أتلصص عليهم، وأتنفس بهدوء، لا أريد أن أقطع عليهم عفويتهم فأقف خلف الباب أطبع كلماتهم فى نفسى فسوف أستعيدها حين أقلب صورهم بعد سنوات.
ثم يكتشفنى أحدهم ويسألنى «ماما ليه واقفة عند الباب؟» كيف أشرح له أننى استبق السنوات وأخزن الأحداث، كيف سيفهم أننى واحدة منهم ولست أمهم فى تلك الدقائق التى تبدو لى أبطأ من غيرها فقد تبخرت الزحمة من حولى وسكتت تفاصيلى عن الحركة ريثما أتابع تفاصيل الأولاد.
فى ملعب الأطفال يتوقف بى الزمن فأضطرب لثوانٍ ريثما يعود لى توازنى. كما فى الأفلام القديمة، تدور الأرجوحة بطفلتين يلمع شعرهما المحمر فى شمس فترة العصر. الحركة بطيئة كمن أبطأ عن قصد آلة التصوير فبهتت معها الألوان واتخذت أصوات البنتين بعدا إضافيا. هو صوت يأتى من بعيد، لا أميز اللهجة إنما تطالنى الضحكات وكأنها حبات ماء تطايرت من نافورة وسط الحديقة، أو من جهاز رش العشب الذى يقذف ببعض الماء أثناء دورانه فينعش من يمر قربه وإن كان يفاجئه أيضا.
***
فى الملعب قد أفقد أطفالى لأننى أفقد دورى كأم وأعود واحدة منهم. أنظر إلى ما حولى بعينى طفلة تبحث عن صديقاتها وتحاول التهرب من موعد العودة إلى البيت. هناك سحر يخيم على مكان مفتوح فيه ألعاب يمكن لأطفال أن يتسلقوها. تلك هى صحرائهم المفتوحة وجبالهم الشاهقة، هو عالمهم الذى يستطيعون أن يركضوا حوله وهم متحررون من خنقة البيت وتوجيهات الوالدين. الملعب عالمهم. أظن أننى فى يوم أكون فيه عجوزا سوف أسحب كرسيا من القش وأجلس على ناصية ملعب فأعود صبية تراقب أولادها. أظن أننى وقتها سوف أجلس فى الظل لساعات عديدة فى أيام الصيف أتذكر إجازات المدرسة ومحاولتى أن أقى أولادى من الضجر.
يبدو لى أن هناك مرحلة من حياة تحاول خلالها، أى الأم، أن تعترف أنها لم تعد هى نفسها الطفلة. هى محاولة للتعرف على دورها بمنأى عن الطفلة التى كانتها، وبمعزل عن تصورها عن أمها. هناك انتقال يحدث تدريجيا فى داخلى رغم أننى أحاول أحيانا أن أقاومه، انتقال من دور الابنة إلى دور الأم. إلا أننى أعود وأتساءل إن كان الانتقال حتميا؟ فباستطاعتى أن أبقى الابنة وأن أتقبل أننى أيضا الأم، أليس كذلك؟
***
من نعم هذه الحياة هى قدرة الإنسان على التكيف الدائم مع التغيير، فهى قدرة أظن أننا نقلل من شأنها. التكيف مع التقدم فى العمر، التكيف مع الأدوار المختلفة التى ننتقل بينها فى العمل وفى الفضاء العام، التكيف مع رحيل أشخاص نحبهم ومحاولة ملء الفراغ من بعدهم، التكيف مع أثر السنوات على الجسد والروح. ما أكبرها من نعمة فعلا، تلك الرحلة الداخلية التى نبحر فيها إلى مناطق داكنة وتيارات نظنها نائمة لكنها تفاجئنا بعنفها. أثناء تخبطى فى تيارات الرحلة، تخترق ظلمتى ألوان وأصوات وروائح الملعب وأرى أشخاصا صغيرين يقفزون بمرح، يلعبون وسط التغيير، تغيب الشمس وتعود وتظهر بينما ترفرف ضحكاتهم حول المكان. عالمى ملعب أطفال يظهر حين أشك فى قدرتى على التكيف، فأتذكر أن الطفلة التى كنتها منذ سنوات بعيدة ما زالت هنا، ترمى بنفسها من أعلى الزحليقة لأنها تعودت أن تصل إلى التراب دون أن تتأذى، رغم أن الرحلة من أعلى اللعبة إلى أسفلها كانت مليئة بالإثارة.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات