لم أصدق عينى حين مررت بلافتة ضخمة من اللافتات الإعلانية التى تظهر بامتداد كوبرى ٦ أكتوبر. العادة أن يصطدم العابرون المتفرجون من نوافذ السيارات والحافلات وسائقو الدراجات النارية وغيرها، بجمل وعبارات مختلة التكوين، ركيكة الأسلوب، فضلا عن الأخطاء الإملائية واللغوية الفاضحة التى تعج بها كل لافتة على حدة؛ حيث يرفع المنصوب وينصب المرفوع ويتحرك المبنى بل ويحظى بالتنوين، وتتناثر الهمزات هنا وهناك بلا ضابط ولا رابط، وتختلط الهاء بالتاء المربوطة وتتماهى الياء مع الألف اللينة ويتوه المعنى وسط المعمعة.
●●●
لم أصدق عينى لأنى رأيت الإعلان الذى يروج لمنتج غذائى من تلك المنتجات التى يقبل عليها فى العادة الأطفال، إعلانا نظيفا، خاليا من الأخطاء الشائعة، مكتوبا باللغة العربية الفصحى، لا كلمات أجنبية منقوشة بأحرف عربية ولا العكس. يوجه الإعلان أمرا للمتلقى، غرضه لفت الانتباه بالطبع، والحث على تجربة المنتج المتوافر فى ألوان وأشكال متعددة وفى أكثر من مذاق: «اختر نكهتك».
●●●
لم أصدق عينى أول الأمر، وبقيت أحدق فى العبارة القصيرة المكثفة حتى التوى عنْقى والسيارة تتجاوز اللافتة وتتركها خلفها والود ودى أن أحملها معى أو ألتقط لها صورة تصبح فى مصاف النوادر. لم تفتر دهشتى حتى لحظة الكتابة هذه؛ فالمسئول عن الإعلان لم يضع همزة على ألف الوصل كما يحدث فى أغلب الأحيان، بل وأدرك أن فعل الأمر مجزوم فحذف الألف، ولو كان الأمر بيدى لشكرته وطلبت من أولى الأمر تكريمه بأى وسيلة، فالقاعدة اليوم أن تغرق اللغة فى أخطائنا والاستثناء أن تنجو.
●●●
كتبت كثيرا ومثلى فعل زملاء أفاضل وأصدقاء، عن حال اللغة وما ينتابها من مواجع وعلل. طالبت مجمع اللغة العربية ــ وبه من العلماء الأجلاء من بجهدهم ينصلح الحال وتنجلى الغمة ــ أن ينظموا دورات تدريبية وأن يضطلعوا بدور إيجابى متفاعل مع الشارع ومبادر إلى سد النواقص. طالبت ورجوت وألححت ولا زلت أفعل وكلى أمل فى الاستجابة بأى صورة ولو بأقل من الطموح المشروع.
●●●
أحتفظ حتى يومنا هذا بقصاصة حرصت على انتزاعها من صحيفة الشروق؛ وعلى وجه التحديد من هذه الصفحة التى أكتب لها. حملت القصاصة مقالة صحفية قادمة من دولة الإمارات وعنوانها: «سيبا اللغة العربية». الأمر وما فيه أن كاتبة المقالة تثمن بعض القرارات التى اتخذتها وزارة التعليم العالى الإماراتية ومنها طرح اختبار مشابه لاختبار «آيلتس» الشهير الذى يقيس قدرات الطالب فى اللغة الانجليزية، لقياس قدراته فى اللغة العربية بالمثل وهى بلا شك الأولى والأحق.
أشادت الكاتبة بالقرار وتحدثت عن حال اللغة فى بلدها وكأنها تصف الحال لدينا فالعرب فى الهم واحد. قالت إنها عملت مع زميلات لا يفرقن بين الاسم والفعل وأنواع الهمزات، كما رثت انحدار العربية الفصحى فى المراسلات الورقية والإلكترونية والتقارير الرسمية والخطط والإعلانات. وضعت القصاصة بين أوراقى وقد اعتزمت حينها أن أراسل الكاتبة أو من لهم صلة بالأمر، عساى أتعرف عن قرب على التجربة وسبل تطبيقها والعوائق التى واجهتها ومدى نجاحها أو حتى فشلها.
●●●
مر عام والقصاصة لا تزال معى، لم آخذ خطوة تجاهها، لا تكاسلا وانشغالا إنما يأسا مما يلى، فمسألة التطبيق تصادف لدينا من المعوقات ما يجهض الأحلام ومن العراقيل ما يورث البغضاء، ولعلى لا أبوح بسر إذا قلت إن طلبات مجْمع اللغة العربية المصرى بشأن إنشاء مراكز لتعريب العلوم والاهتمام بشئون الترجمة داخل الجامعات، قد قوبلت من وزراء التعليم العالى بالتجاهل وأحيانا بالرفض الصريح، فما بالنا ومقترح مثل هذا الذى أخذت به الإمارات؟
●●●
القصاصة لا تزال فى جيبى، والشكر الممهور بدهشة عظيمة لأصحاب إعلان «اختر نكهتك» لا يزال عالقا بلسانى، مضفيا نكهة خاصة نسيتها منذ وقت بعيد.