أستطيع أن أقرأ من بين سطور الخطابين السياسى والإعلامى شعورا عاما بعدم الارتياح إلى الدور الشعبى فى مصر! فالمواطن مطالب بالجوع والعطش والألم والموت دائما كى يحيا الوطن! وهو إذا جاع وفر الغذاء.. وإذا استغنى عن كثير من أساسيات الحياة تحقق فائض فى الموازنة العامة عوضا عن العجز.. وأزيد أنا أنه إذا انتقل إلى رحمة ربه ترك متسعا من الأرض والموارد لسائر الشعب! لكن أليس المواطن هو أداة التنمية وهو المقصود بها؟! أليست حياته ناهيك عن رفاهيته هى الغاية المنشودة من وجود النظام أى نظام ولا أقصد فقط النظام السياسى بل كل ما يحكم علاقات المواطنين من أنظمة ودساتير وتشريعات وأعراف؟
أحد النافذين قال لى ذات يوم أنه جلس يستمع مع نفر من الأعلام إلى حديث مسئول مهم قال لهم فيه ما مفاده: إن المخاطر محيطة بمصر من الشرق والغرب والجنوب، وإن أكثر ما يقلقه هو هذا (ونزع يده من منتصف المائدة) فى إشارة إلى الداخل المصرى، قد يفهم من هذا قلق المسئول من جماعات التطرف المسلحة وفلول الإرهاب (هذا ما فهمته أنا لأول وهلة)، لكن يبدو من قراءة متعمقة لخط الخطاب السياسى ولشرح هذا الشخص النافذ ذاته أن الأزمة فى المواطن نفسه كوحدة للاستهلاك والتعبير والاهتمام بالشأن العام، لأن هذا المواطن إن لم يضمر شرا فهو عرضة للاستغلال من قبل قوى الشر وأهله.
***
المواطن خارج المؤسسة العسكرية لا يحظى بثقة بعض أهل الحكم فى مصر، ما لم ينشأ فى حظائر تضمن ولاءه، أو محميات ثقافية تضمن سلامته من عدوى الشر. هو مشروع لثائر أو عميل أو خائن، مطالب على الدوام بإثبات العكس. إذا تعرض بعض قوات الجيش لعمل إرهابى خسيس، كان المواطن ملاما لأنه يشكو الفقر أو الأزمات، وكان مطالبا طوال الوقت بالشجب والإدانة للإرهاب لإثبات سلامة وطنيته!
هذا التصور الذى يتبناه بعض رموز السياسة والإعلام لا يستقيم، ولا يحفظ لوطن استقراره، ولا يصح أن يوضع المواطن فى مواجهة مع الوطن أو الجيش أو بقاء الدولة، أو يوضع المدنى الكادح المطحون المجاهد فى سبيل توفير لقمة عيش من مال حلال يكفى بها نفسه وأهله عن السؤال، فى مقابلة أو حتى مقارنة مع الجندى الباسل الذى يضع روحه على كفه حماية لتراب الوطن، كلاهما يضرب بمجدافه كى تتحرك سفينة الوطن إلى الأمام. من غير المقبول أن يخضع العقل الجمعى للشعب لحالة التشنج التى باتت مسيطرة على المجال العام. التشنج هو البيئة الخصبة التى ينمو فيها الإرهاب ويترعرع فيها الجهل ويعيش فيها الفقر والمرض، وهناك من تخصص فى رعاية التشنج كأسلوب حياة وكرد فعل على مختلف صور النشاط الاجتماعى والرياضى والسياسى والاقتصادى.. تشنج لتثبت أنك وطنى، ولتثبت أنك مشجع جيد لناديك الرياضى.. تشنج لتكون فى أول الصف وفى عين عدسة التلفاز وعلى صفحات الجرائد.. تشنج وأنت تصوت فى الانتخابات وارقص على نغمات صاخبة كالزار ربما خرجت منك الشياطين! تشنج وأنت تقود السيارة.. تشنج لتبقى على جنسيتك!
***
التنمية الشاملة التى ننشدها قوامها المواطن الفرد، الذى يقود مؤسسات الدولة لتحقيق نمو احتوائى فى الناتج المحلى الإجمالى، ويضمن عدالة توزيع ثمار هذا الناتج، من خلال نظام ضريبى عادل وفرص متساوية لمختلف المواطنين فى حياة أفضل. الثالوث المزمن الذى يحيط بمصر منذ قرون ما زال جاثما على صدورنا وهو الجهل والفقر والمرض، والخروج من براثن ذلك الثالوث يتطلب استثمارا رشيدا أو مرشدا فى مجالات التنمية البشرية أولا خاصة التعليم والصحة، مع خلق فرص عمل تحقق دخلا مستقرا للقوى العاملة وبرامج حماية اجتماعية تدفع شبح الفقر عن نصف سكان مصر (على الأقل). الحكومة مطالبة بتمهيد بيئة مواتية للاستثمار بدءا بالتشريع المبسط العادل الذى يحفظ للدولة حقوقها فى تحقيق أهداف التنمية، والبنية الأساسية اللازمة لإقامة المشروعات، مرورا بسهولة إصدار تراخيص الإنشاء والتشغيل، وانتهاء بسهولة تدفقات رءوس الأموال وإيرادات النشاط.
لو لم يكن الجو العام مشحونا باستقطاب غير مبرر بين مواطنين و«وطنيين» ! لما أثار حديث سائق التوكتوك كل هذا الجدل. على العكس، رأيت فى رسالة هذا الرجل شيئا مميزا علينا جميعا أن نستثمره ونبنى عليه، وهو اهتمام مواطن بسيط بالشأن العام. رجل فقير يمتهن مهنة هامشية لا يطلق صرخة جوع شخصية، ولكنه مهموم بشأن مصر وصورتها واقتصادها الكلى.. هذا كنز استراتيچى ليتنا نستطيع استثماره بدلا من التشكيك فى نواياه والتحقير من مضمون وتفاصيل ما ورد برسالته!.. بعض الدول تصنع هذا النموذج صناعة وتدعيه ادعاء كى يرسل إشارات حفز الهمم لنظرائه من المعوزين والمطحونين. ساء بعضنا أن يرى مواطنا بسيطا يبحث عن كرامة بلده ولو فى كتب التاريخ، بدلا من أن يمد يده بسؤال العون والمدد من الناس! ربما أربك هذا المشهد حسابات الكثيرين ممن أربكهم فى السابق هتاف الفقراء بالحرية والعدالة الاجتماعية وليس العيش فقط، لكنه ارتباك غير مبرر لأن النقد لم يحمل دعوة للعنف، بل جاء برسالة تدعو إلى التأمل فى مآلات الأمور، وتقترح مخرجا للأزمة مبناه تنمية البشر والبحث عن مزايا نسبية فى الاقتصاد المصرى.
النظر إلى المواطن كوحدة اقتصادية فاشلة تملك فوائض غير ضرورية وجب تعبئتها فى صناديق لينفق منها على مشروعات كبرى تعمل على تشغيل المؤسسة الكفء ــ الوحيدة فى نظر البعض ــ هو ما يقودنا بسرعة بعيدا عن أهداف التنمية الشاملة، وهو ما يهدر موارد بشرية ومالية كان يمكن أن تنتج بصورة أكفأ فى مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر لو أن الدولة قد وفرت لها الأرض والتدريب وحاضنات التسويق. أثمن حديث الرئيس الأخير عن الانسحاب التدريجى للجيش عن الدور الاقتصادى، ففيه إدراك لقيمة الجيش وطبيعة النشاط الاقتصادى.
***
بينما كنت أختم هذا المقال ملأ الفضاء الإعلامى حديث شامل للدكتور فاروق الباز العالم الجيولوجى المصرى الأمريكى، والذى من حقه أن يكون له رأى فى أمور السياسة والاقتصاد.. وغير ذلك من أمور لا نعدها حكرا على أهل التخصص، خاصة إذا اتصل الأمر بالشأن العام وبإبداء الرأى الشخصى. لكن العجيب أن الدكتور الباز لم يكتفِ بإبداء الرأى فى غير تخصصه، بل طالب من يخالفه الرأى فى مسألة جدوى المشروعات القومية بأن يخرس! لا يمكن أن تجد فى معاهد العلم بالولايات المتحدة موضعا لهذه الكلمة، ولا يمكن أن تكون إدارة العمل بوكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» موطئا لاستبداد الرأى واحتكار الحقيقة المطلقة، ونظرا لتقديرى للدكتور الباز علما وسنا فلن أخوض فى تحليل الأسباب والدوافع التى ربما قادته إلى التلفظ بهذا اللفظ، لكننى أوقن أنه ما كان ليستخدم هذا الأسلوب فى المصادرة على المطلوب لو عاد بالزمن إلى الوراء، أو عاد بالطائرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.