يُقال دومًا أن لكُلّ شيءٍ أوانه؛ وقته المَعلوم الذي يكون فيه على أفضل صورةٍ وبأحسن حال. ما ظَهَر مِن فاكهةٍ أو خُضرواتٍ في غير أوانِه يفتقر في العادة إلى طيبِ المَذاق؛ والسبب أنه لم يَحظ مُدة كافيةً بعوامِل البيئة المُناسبة التي تُنضِجه وتُغنِيه وتُكسِبه رونقه، لم يأخُذ فرصَتَه في الأرضِ ولم يتشَبَّع بخيرِها ولا تَرَك عليه الزمانُ بصمَتَه؛ أما ما بدا ناضِجًا على الأقفاصِ وبين يديّ التُجار، فبوسائلٍ فيها تحايُل وخِداع، والطعمُ لها كاشف.
***
تُحدّد الأشهر القبطية أوانَ غرسِ البُذور وريّها، وساعةَ استواءَ النبتةِ ومَوعدَ حصادِها؛ إذ ارتبط التقويمُ منذ قديمِ الأزل بطبِيعة الحياة؛ الأرض والمَاء والنَبات.
***
ليس الحَصادُ وحدُه ولا الحَيُّ مِن المَوجودات فقط؛ هو ما يرتبطُ بمُرورِ الزَّمن ارتباطًا وثيقًا؛ فبناءٌ يُشيَّد لا بُدَّ وأن تجفَّ أساساتُه وتشتدُّ أعمدتُه، وأن يأخذ وقتَه ويعلو في أوَانِه، بلا عَجَلة تؤثر في تماسُكِه، وبلا تسرُّع واستخفاف يُؤذيان صلابتَه؛ وإلا انهار. تَكمُن المَهارةُ في اختيار اللَّحظةِ المُناسبة؛ لا في استجلابِها عنوة، واصطناعِها بلا تروٍّ ولا تخطيط.
***
الأَوَانُ في مَعاجِم اللغة العربية هو الوَقت والزمانُ، يُقال هذا أَوانُ البَردِ؛ أيّ فَصلُه، وكذلك أَوانَ الحَجّاج. إذا قِيل وَصَلَ بَعدَ فَوَاتِ الأوَان، فالمعنى أنه لم يَلحق بأمرٍ مُهِم مِن الأمور، والسابِق لأوانِه هو المُتجاوِز زمَنَه، والقول قد يأتي مَجازًا ليصِفَ الحذقَ مُنذ نعومة الأظفار. يُعرَف الأوانُ كذلك بأنه الحينُ؛ آن أوَانُه أي حان وَقتُه، ولا أشهر مِن كلمةِ الحجَّاج بن يوسف الثقفيّ؛ الطاغية الأعظم: والله إني لأرى رؤوسًا قد أينَعَت وحانَ قطافُها وإني لصاحبها. الرؤوسُ في تشبيهه ثمارٌ؛ جاءَ أوَانُ جنيِها مِن على الأعناق، لكنَّ هذا الأوانَ لم يكُن اختيارَ أصحابِها بكُل تأكيد.
***
ثمَّة أوانٌ للصَمت وأوانٌ للقَول وآخرٌ للحركة؛ فإذا اختلطَت المَواقيتُ وحلَّ فعلٌ محَلَّ الآخر، أفسد المَوقِفَ وأربكَه؛ ربَّ كلمة تخرج في وقتِها الصَّحيح فتغدو بمنزلَةِ السِّحر، وأخرى تُخطِئ أوَانَها فتصبح كطلقةِ رصاص. قِيل قديمًا؛ مِن الحصافةِ أن يعرفَ المَرءُ متى ينطقُ ومتى يسكُت، فكثير الناسِ يجهلون الحدودَ؛ حتى يضجَّ السامعُ أو يمَلَّ مَن ينتظرُ الحديث.
***
غنَّى الشيخُ إمام: هِلّي يا شمس البشاير طابت وآن الأوَان.. إلى آخر الأغنية: مصر الشباب العزيزة قامت، وكان اللي كان. هذا "الذي "كان" ارتبط بحلولِ ساعةٍ مُرتقَبة، لا يتقدَّمُ عليها ولا يتأخرُ عنها، وهذا الذي "سيكون"؛ مَرهونٌ بطبيعةِ الظروف وتطوُّراتِها ومدى مُلائمتِها؛ فإذا اجتمَعت الأسبابُ وتهيأت الأجواءُ، طلَعَت الشَّمسُ ولم يُمكن لأحدٍ إخفاؤها.
***
أعرف كُتابًا قادرين على صياغةِ نُصوصِهم في كُلّ أوانٍ ومكان، أعرف أيضًا مَن ينتظرون حضورَ لحظةِ وَحيٍ؛ تنطلق فيها الكلماتُ بلا جَهد، وتصطَفُّ المعاني سلسةً واضحة. أعرف قسمًا ثالثًا يكتُب، ثم يترك ما كتَبَ ليعود في وقتٍ مَعلوم؛ فيراجع الفكرةَ ويُعيد اختبارَها ويتأكد مِن صلاحيتِها. ربما لا يَفضُل أحدُ هؤلاء الآخرَ فلكلّ عاداته وطبيعته، ولكلِّ نصٍّ أوَان اختماره.
***
إذا تأخر واحدٌ عن فِعلٍ وَجَبَ عليه أداؤه، قِيل عند حُصوله: لسَّه فاكر؟! في السؤال ما لا يُمكِن تجاهُله مِن سُخريةٍ واستِهجان، والقَصد أن التأخيرَ مَحا الاحتياجَ وجعله طيَّ النسيان. كُلُّ ما جاء بعد فواتِ أوَانِه؛ فقد جزءًا عظيمًا مِن قوتِه وبَهت وقعُه وتلاشى؛ فغوثٌ بعد نجاة مَلهوف، أو غضبٌ بعد انقضاءِ السبب، أو إجابةٌ بعد زوالِ السؤال، أو حتى احتفالٌ بعد انتهاءِ المناسبة؛ جميعها أفعال ذات أصداءٍ خابيةٍ ضعيفة، مَرَّ وقتُها فصارت بلا مَعنى ولا أثر.
***
ثمَّة أشياءٌ تحدث في أوقاتٍ ثابتة؛ يمكن التنبوء بساعتِها وتاريخِها، وكثيرها مِن عملِ الطبيعة لا البشر؛ فدورةُ شمسٍ أو قمر أو نوَّةٌ عاصِفةٌ، تصدُق في العادة وتصِلُ في موعدها بدقَّة مَشهودة. ثمَّة ما يأتي على حين غُرة، يحلُّ دون أن يحسبَ الناسُ حسابَه ويعدُّون له العدَّة، يُفاجئ الوادعين المُستكينين لحالهم، ويُنزِل بهم صدمةً، ويترك لهم أسئلةَ الدهشة؛ حَدثٌ قد يبدو في غَير أوَانِه، لكن هناك دومًا ترتيبات لا تُرى في وقتِها، بل تُدرَك بعد حين.
***
كَتَب أحمد فؤاد نجم مَوَّاله الشهير "الأولة بلدي" في أوجِ الازدهار، وقد أداه إلى جانبِ رفيقِ رحلتِه أكثرُ مِن مُطرِب ذي مَكانةٍ على مَدار سنوات طوال، وفي مَطلعه يقول: الأولة بلدي باسلطن جو موالي ودا الموصوف دوا العيان.. والثانية بلدي باقول الكلمة بالعالي وع المكشوف وف المليان.. والثالثة بلدي ياكنزي وعزوتي ومالي وملو الشوف آوانك آن. بقيت الكلماتُ صامدةً مُنذ خرجت إلى السامعين؛ فالأوان الذي استشرفته لا يزال مُنتظَرًا.