الصراع على الزعامة المارونيّة فى لبنان - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:56 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصراع على الزعامة المارونيّة فى لبنان

نشر فى : الثلاثاء 18 ديسمبر 2018 - 11:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 18 ديسمبر 2018 - 11:10 م

نشر موقع « درج» مقالا للكاتب «حازم صاغية» يتناول فيه الصراع بين الزعامات المارونية فى لبنان على الحكم.

فى 1960، السنة الأولى للعهد الشهابيّ، بدا أنّ الرئيس السابق كميل شمعون، الذى قامت فى وجهه «ثورة 1958»، سيكون الرأس المطلوب: إنّه الأُضحية التى سيقدّمها فؤاد شهاب لكى يستقرّ عهده. الآخرون أتيح لهم أن يوجدوا، على نحو أو آخر، فى صحن الزعامة، وإن بترتيب متفاوت و«مدروس».
فالحكومة الرباعيّة، التى شُكّلت بعد «الثورة المضادّة» الكتائبيّة، رسمتْ ريمون إدّه وبيار الجميّل بوصفهما وجهى الدرجة الأولى: هما وحدهما يمثّلان المسيحيّين، لا الموارنة فحسب، إلى جانب رئيس الحكومة رشيد كرامى والوجيه – المليونير حسين العوينى اللذين يمثّلان المسلمين، لا السنّة فقط. مع هذا، رُسمت لكلّ منهما حدوده ووظيفته: ففى العام نفسه، 1960، خيضت معركة انتخابيّة تنافس فيها، فى بيروت الأولى، بيار الجميّل وبيار إدّه، شقيق ريمون، ففاز الأوّل ومعه كامل لائحته. هذه النتيجة رأى فيها الأخَوان إدّه «اختلاسا» للمقعد ضمنتْه للجميّل مداخلات «الشعبة الثانية» أو «المكتب الثانى» وفق التسمية الشعبيّة. هنا، مع هذا «التحجيم»، بدأ الافتراق بين ريمون إدّه والعهد الشهابيّ. السنوات اللاحقة وسّعت المسافة بينهما وحوّلت نزاعهما واحدا من عناوين الحياة السياسيّة للستينيات.

إدّه والجميّل وفرنجيّة

إدّه كان الأقرب إلى السياسيّ البرلمانيّ الذى يشرّع ويحاسب السلطة التنفيذيّة من دون أن تستغرقه مطالب القضاء الخدماتيّة من ماء وكهرباء وطرق ومدارس. كان محبوبا على نطاق وطنيّ بوصفه أمل الفئات الحديثة التى عوّلت على النزاهة والكفاءة ومواكبة الانتقال إلى رأسماليّة أشدّ انفتاحا على الخارج وأكثر اندماجا فيه. هؤلاء رأوا فيه رمز التوجّه «العصريى» هذا، ولم تستوقفْهم حماسته لحكم الإعدام أو للسرّيّة المصرفيّة، بل اعتبروهما، على العكس، حاجةً وضرورةً لما بعد «فوضى 58». ومع أنّ قاعدة قوّته، قضاء جبيل، صغيرة وطَرَفيّة قياسا بالعمق الجبليّ، فريمون إدّه ورث أيضا بقايا زعامة أبيه، الرئيس الراحل إميل إدّه، ما وفّر له كتلة تضمّ نوّابا من أقضية أخرى، كنهاد بويز فى كسروان وإدوار حنين فى المتن الجنوبيّ. والحال أنّه منذ منافسات إميل إدّه وبشارة الخورى، وتاليا «الكتلة الوطنيّة» و«الكتلة الدستوريّة»، بات وجود «الكتلة» شرطا لبلوغ السياسيّ المارونيّ سدّة الرئاسة.
بيار الجميّل كان شيئا آخر: فهو يوفّر لشهاب الغطاء المارونيّ فى مواجهة شمعون وإدّه، فيما يستخدمه الجنرال – الرئيس بوصفه ممثّل الاعتراض المارونيّ على التنازلات المقدّمة للزعماء المسلمين ولجمال عبدالناصر. إنّه حدود التنازل الممكن. ومؤسّس حزب الكتائب هو الأكفأ لأداء دور كهذا: ففى 1958، قاتلَ حزبه، بقدراته المحدودة حينذاك، إلى جانب شمعون ضدّ «الثوّار»، ثمّ انتقل إلى تأييد شهاب بوصفه رمز التسوية الوحيدة الممكنة والمقبولة عربيّا ودوليّا، والقادر، من خلال الجيش، على إدامة السلم الأهليّ فى ظلّ رجحان مسيحيّ.
وبعدما كان لـ «الكتائب اللبنانيّة» نائب واحد فى البرلمان، بدأ الحزب يتوسّع، عام 1960، على نطاق وطنيّ يتعدّى الجبل. فإلى الجميّل وجوزيف شادر فى بيروت، وعبده صعب فى المتن الجنوبيّ وموريس الجميّل فى المتن الشماليّ، صار للكتائب نائب فى جزّين هو بازيل عبّود، قبل أن يصبح لها نائب فى الزهرانى هو راشد الخورى، ثمّ نوّاب فى مناطق طرفيّة أخرى. لقد واكبت الكتائب، فى نموّها، صناعة الوطن على النحو الذى سعت فيه الشهابيّة: توسيعا للخدمات وربطا للمناطق وتوليدا لطريقة حياة وثقافة لبنانيّتين.

ريمون إده
على مقربة من إدّه والجميّل، كان هناك سليمان فرنجيّة فى زغرتا. فهو الزعيم الأوّل فى بلدته وقضائه، والوجه الأوّل لموارنة الشمال الذى لا يُعدَم حلفاء مجاورون، ككميل عقل فى البترون وحبيب كيروز فى بشرّى. لكنّ نقاط الضعف كانت كثيرة: ففرنجيّة حلّ فى الزعامة مكان شقيقه حميد بعدما كان «شيخَ شبابه» ومُدبّرَ علاقاته الأهليّة، وهو ما لم يكن ليحصل لولا مرض حميد الذى أقعده فيما أبناؤه صغار السنّ. ولئن كان الأخير، وهو محامٍ، من نجوم السياسة اللبنانيّة والصالون البيروتيّ لحقبة ما بعد الاستقلال، فإنّ سليمان، الذى نفر مبكرا من المدارس، هو مَن اقتصر حضوره على زغرتا وجوارها. إلى هذا بدت الزعامة الشماليّة عموما، فى قيامها على الملكيّات الزراعيّة، شيئا من ماضى الجبليّين ينظرون إليه من أعلى. ففى الجبل شرعت تنكسر تلك الملكيّات منذ ستينيات القرن التاسع عشر، وراحت السياسة تعكس المهن الحديثة، خصوصا المحاماة والصحافة، لفئات اجتماعيّة حديثة.
فؤاد شهاب، قائد الجيش السابق والرئيس التحديثيّ، لم يكن يكنّ لهذا الصنف من سياسيّى الأطراف كبير تقدير.
لكنّ الطعن الأبرز بسليمان فرنجيّة نشأ عن دوره المباشر فى مذبحة كنيسة مزيارة عام 1957 التى أُنزلت بآل الدويهى. لقد بدا هذا السجلّ الشخصيّ عبئا فضائحيّا على صاحبه. أمّا الذين بدوا مستعدّين أن يغفروا له دوره ذاك، وهو غفران صعب، فلم يغفروا لجوءه اللاحق إلى «الإقليم الشماليّ للجمهوريّة العربيّة المتّحدة». ذاك أنّه إبّان الاستنفار غير المسبوق الذى استنفرتْه العصبيّة المارونيّة ضدّ الناصريّة المهاجمة من الخارج، استقرّ فرنجيّة فى اللاذقيّة.

فؤاد شهاب «الأب»

فى مقابل الزعماء الموروثين، عمل شهاب على تخليق سياسيّين جدد، كلّهم متعلّمون وكلّهم ذوو حيثيّات أهليّة أو شعبيّة فى مناطقهم: جون عزيز فى جزّين وفؤاد نفّاع فى كسروان ورينيه معوّض فى زغرتا وأنطوان سعيد فى جبيل… الرهان هذا الذى حقّق، بين الموارنة على الأقلّ، نجاحات مُعتبرة، نمّ عن استعداد تعدّديّ يتّسع لخليط طبقيّ ولحراك ديناميّ فى داخله، حراك يُرجَّح أنّه شغل المخيّلة الأبويّة لفؤاد شهاب فتَـفَـنّـنَتْ فيه.
فهو، كـ «أمير» ورئيس جمهوريّة وزعيم وطنيّ، رسم لنفسه صورة «القدّيس»، بحسب الوصف الذى أطلقه مناصروه وموظّفو أجهزته. هكذا وقف فوق السياسة وفوق الأحزاب، مُطبّقا ما يفترضه سيناريو نظريّ، أو شرط دستوريّ، فى رئاسةٍ متعاليةٍ صاحبها معجب بشارل ديجول. أمّا بالنسبة إلى قلّةٍ صدّقت أنّه قدّيس، يرشح من جسده زيت وبخور، فتراءى واقفا فوق الحياة نفسها. «قدّيس صربا»، حيث أقام قصرَه الرئاسيّ، قريبا من جونيه، هو «صنم صربا» عند كارهيه.
بيد أنّ التعالى الظاهريّ، الذى يكلّف الأبناء بما يريده الأب المتعالى، لم يُخفِ الحرب التى نشبت بين شهاب وبين ثلاثة من أصل «جبابرة» الموارنة الأربعة. فشمعون اشتمّ منذ اليوم الأوّل لرئاسته ميلا ثأريّا حياله، سيّما وأنّ الودّ كان مفقودا فى الماضى القريب. ذاك أنّ الرئيس السابق حين واجه «الثورة» لم يجد إلى جانبه قائد جيشه الذى آثر اتّخاذ موقف الحياد. وإبّان رئاسة القائد هذا، لم يحتمل شمعون، وهو أحد أبرز مَن واجهوا المدّ الناصريّ فى الشرق الأوسط، ربط السياسة الخارجيّة للبنان بمصر الناصريّة، ومنح سفيرها فى بيروت، عبدالحميد غالب، منصّة إشراف ووصاية. وبدوره، أسند إدّه معارضته على رفضه الموقع الذى بات يحتلّه «المكتب الثاني» فى حياة الناس العامّة، وإلى حدّ ما الخاصّة. لقد رأى مُحقّا أنّ الموقع هذا يتعارض مع برلمانيّة النظام ومع الديمقراطيّة وحرّيّاتها. وعلى نقاط التقاطع بين شمعون وإدّه، ركّز غسّان توينى جريدته «النهار» صوتا مؤثّرا للمعارضة المسيحيّة. أمّا فرنجيّة، الذى تصالح مع شمعون ومع حليفه المحلّيّ فى زغرتا، الأب سمعان الدويهى، ضامّا الأخير إلى لائحته عام 1964، فساورتْه الشكوك التى تقارب اليقين. ذاك أنّ رينيه معوّض بات يحلّ محلّه وزيرا فى الحكومات الشهابيّة. وكمثل مَن يكون فى فمه ماء، اضطُرّ فرنجيّة لأن يحافظ على تحالفه الانتخابيّ مع معوّض، خصوصا أنّ خلافات العائلات فى زغرتا قد تفضى إلى الدم. حكمة المغلوب على أمره كانت: إنّ ما حصل مع شمعون والدويهى فى الخمسينيات ينبغى ألاّ يتكرّر مع شهاب ومعوّض فى الستينيات.

انتخابات 64

مع انتخابات 1964، شكّل سليمان فرنجيّة لائحة جمعت إليه معوّض والدويهى. لكنّ ما أمكن تجنّبه فى زغرتا استحال تجنّبه إلى الجنوب منها. فقد وجّه شهاب ضربة لمعارضيه الموارنة الجبليّين بحجم الضربة التى سبق أن وجّهها شمعون فى انتخابات 1957 لمعارضيه المسلمين: فى الشوف رسب شمعون نفسه، وفى جبيل رسب إدّه. هذا الزلزال أشعر موارنة لبنان عموما، وموارنة الجبل خصوصا، بأنّ الأرض جُعلت صلصالا تحت أقدامهم. لقد تراءى لهم أنّ قبضة جمال عبدالناصر تقرع أبوابهم فى المتن وكسروان، مهدّدةً بإسكات أجراسهم.
أسند إدّه معارضته على رفضه الموقع الذى بات يحتلّه «المكتب الثاني» فى حياة الناس العامّة، وإلى حدّ ما الخاصّة.
أمّا بيار الجميّل فلم يعد فى وسعه، وقد أمعنتْ الخطّة الشهابيّة فى صلفها، أن يقدّم الغطاء المارونيّ الذى قدّمه قبلا. صحيح أنّ انتخابات 1964 أعطت الكتائب المتوسّعة خارج الجبل مقعدا شغله راشد الخورى فى الزهرانى، إلاّ أنّ ناخبى الجبل صفعوها باثنين بارزين أسقطوهما: عبده صعب فى المتن الجنوبيّ ولويس أبو شرف فى كسروان. لقد بدأت الكتائب تتململ وراحت تحذيرات شيخها من هذا «السير فى المجهول» ترتفع.
لكنّ رفض فؤاد شهاب التجديدَ أعفى الجميع، لا سيّما الجميّل، من متاعب يُستحسَن تفاديها. ومواجهة القدّيسين، أو الأصنام لا فرق، مهمّةٌ لا يُحسَد صاحبها عليها. حينذاك استقرّ الأمر على شهابيٍّ مُلتبس، وصفه البعض بـ«اليسوعيى»، لا لأنّه يجاهر بإيمانه بل لأنّه يُخفيه. فشارل حلو، وفق عارفيه، ذو تقيّة تجعله يقول ما لا يُضمر ويُضمر ما لا يقول.
وفى الحالات كافّة، حرص الأقطاب الموارنة على إحاطة الرئيس الجديد برعايتهم، عاقدين الرهان على ما يُضمر لا على ما يقول. وهو بالفعل كان يُضمر الحدّ من سلطان «المكتب الثاني» ومن وصاية القاهرة على السياسة العربيّة للبنان. فوق هذا، كان يعرف، هو الذى تتلمذ على ميشال شيحا، أنّ للبلد معادلات وتوازنات لا يقوم إلاّ عليها، فإذا هُمّش الجبل، ولبنان فى آخر المطاف بحر وجبل، خانَ البلدُ أصولَه وفقد معناه.

هذه المساعى أثمرت فى 1968، وكانت سبقتها بعام واحد هزيمة عبدالناصر المدوّية فى 1967. يومذاك جيء بسليمان فرنجيّة وزيرا لداخليّة الحكومة التى تجرى الانتخابات، وفرنجيّة أحد ثلاثة أسّسوا «تكتّل الوسط» الذى ضمّ إليه صائب سلام وكامل الأسعد. الثلاثة هؤلاء كانوا أيضا خصوما للشهابيّة، وإنْ بتفاوت فى التعبير والحركة. أمّا شمعون وإدّه فأنجزا، فى هذه الغضون، استمالة بيار الجميّل، المتعافى من فؤاد شهاب، إلى خطّهما. هكذا نشأ «الحلف الثلاثى» المتحالف فى الخفاء مع «تكتّل الوسط». إنّها، إذن، معركة الحسم ضدّ الشهابيّة وعسكرها.

النص الأصلي  من هنا

التعليقات