صباح الخيرات والليرات، أهلا بالغالية، نورتينا وفرحتينا، يا ألف خطوة عزيزة، مكانك فاضى، طل القمر أخيرا!
أستقبل لغتى العربية فى يومها العالمى، أفتح أبواب قلبى لأدخلها بكل زهوها وأناقتها، اليوم عيدها ومناسبة للاحتفال دون أن تنغص عليها فرحتها اللغات الأخرى. هل من الممكن أن تفرد اللغة العربية جسدها بالكامل على يومى فلا أسمع أى لغات أجنبية من حولى ولو لعدة ساعات؟ أريد أن تمد اللغة العربية ذراعيها فتحتضن الشمس عند الشروق، غزالة هو اسم الشمس عند الشروق، من منا يعرف ذلك؟ تمد اللغة العربية ذراعيها نحو شمس الغروب، اسمها جونة على فكرة، نعم الجونة هى الشمس عند مغيبها. يمد حرف الألف رقبته الطويلة، أشرقت. يرمى حرف الباء نقطته على أول شعاع: بزغت. ساعات قليلة ويدخل حرف التاء فى اللعبة مع الشمس: تلألأت. هكذا أمضى يوما بأكمله أرمى حروفا نحو الشمس وأراقب رقصتها فى السماء.
***
ماذا أهدى لغتى يوم عيدها؟ أى ثوب يليق بها اليوم، فيظهر دلالها وقوتها فى وجه كل من يحاول بقصد أو من غيره أن يشوهها؟ كيف أشرح لمن حولى أن لا بديل عندى للغة فيها درجات لا تنتهى من الأطياف تعبر عن كل عاطفة، من الحب إلى الكره مع تغطية كل ما بينهما، أختار كلمة لتناسب الدرجة الدقيقة لشعورى فى ساعة معينة. لا أبيض وأسود فى لغتى إنما ألوان الكون كله تلعب لعبة الضوء والظل وكأنها مشكال بحجم الكون. مشكال: رسم متغير الألوان يحاكى خيالى فتمتزج من خلاله مشاعرى ليظهر الأحمر تارة والأخضر تارة أخرى، الحب والسعادة والضعف والقوة ثم اليأس أحيانا بلونه الرمادى قبل أن يركله الأمل فيعود حرف الألف إلى البداية بعد أن يتخلص من الياء.
***
فى حب اللغة العربية تظهر أمامى وجوه لم أرها منذ مدة، تدندن فى فضائى برفق فتهدئ من روعى. فى حب اللغة رائحة ماء الزهر تتسلل إلى يومى المكتظ فتبطئ من إيقاعه ريثما ألملم نكهات التصقت فى ذاكرتى بالعربى: حان وقت زهر الليمون فى غوطة دمشق، ارتفعت تهليلات العيد من المسجد الأموى، ظهرت أطباق المهلبية على طاولة المطبخ يزين وجوهها الفستق الحلبى. لا أعرف سبب ارتباط كل هذه الصور الحسية ببعضها البعض، أنا اليوم فقط متلقى أجلس فى ركن فى بيتى وأفكر فى هويتى بعد سنوات طويلة من الترحال والتنقل والتفاعل مع العالم بتنوع لغاته وروائحه ونكهاته.
***
فى البدء كان العربى، على الأقل بالنسبة لى، فى أغانى الأطفال وهمس أمى فى أذنى قبل أن أبدأ أصلا بالكلام. فى قلبى تنمو ياسمينة لهجتها شامية، لا مفر. فى شبابى الكثير من كلمات الحب بالعربى، تخللتها بعض الكلمات الأجنبية الدخيلة بين حين وآخر لكنى سرعان ما أتيقن أن لا منافسة ممكنة بين عالمى والعوالم الأخرى. فى البدء إذا كان العربى وما زال، رغم محاولات كثيرة ممن حولى بطرده من الساحة، ها هى لغتى تتصدر المشهد عند اللزوم فتفرد عباءتها المطرزة كثوب فلسطينى كثير الألوان، خيوط حمراء على أرضية السواد. نعم أرضية لغتى اليوم سوداء لكن كلماتها تعيد النور إلى عالمى.
***
أحضرى أيتها الكلمات، افتحى ستارة ودعى الشمس تدخل: أشرقت بزغت، تلألأت، طلعت، لمعت، سطعت، هل أكمل أم اقتنع من يهمل العربية أن لا إشراقا كإشراق كلمة حب يرسمها الحبيب على سمائى وقت الدجى، فيظهر العشق والغرام والولع والهيام والتيم والجوى والشغف والوجد. أجلس فى ركن فى بيتى أركب وجوها على الكلمات وأتذكر أصدقاء لم أرهم منذ زمن وأقرباء أظن أنهم ذهبوا ولم أودعهم. أخاف أن تذهب معهم كلمات بدأت تختفى كما يختفى كبار السن من حولى. هل ثمة دور لرعاية اللغة العربية وإعادة تلميعها حتى تحتفظ بشبابها؟
***
فى اليوم العالمى للغة العربية، أنفض الغبار عن كلماتى المفضلة وأتفحصها بحثا عن تفاصيل ربما لم ألاحظها من قبل. اليوم مناسب جدا للاحتفال، الجو بارد لكن السماء شديدة الزرقة والشمس تفرد أشعتها فأرى الحروف بوضوح تتراقص من حولى. كل عام ولغتى أحلى اللغات، كل سنة وجذورها تحفر لنفسها مكانا أعمق فى الأرض، كلماتها أوراق شجر خضراء تنبت بخجل فوق الغصون، مخارج الحروف فيها زهر ليمون يعود مرة فى السنة ليذكرنى أننى من هناك حتى لو أمضيت عمرى أجول العالم، جذورى هناك وكلمات الحب خاصتى تظهر على أغصان شجر المشمش البلدى والفستق الحلبى، أما كلمات الغضب والحنين واليأس فهى تنبت مع أشجار الزيتون فى بلاد يحاول الظالم فيها أن يقتلعها طول الوقت لكنها تقاومه وتبقى. فى اليوم العالمى للغة العربية، أكتب رسالة حب من على شرفة منزلى وأرميها فى الأفق وقت الشفق، كل عام وأنت بخير يا ملكة اللغات.