تفرض الأوضاع الاقتصادية التى تمر بها مصر، خاصة ارتفاع معدلات التضخم ونقص العملة الصعبة، تأثيراتها على قدرة الحكومة على الوفاء بالاحتياجات الأساسية لمنظومة التعليم، بما فى ذلك الحاجة للتوسع فى إنشاء مدارس جديدة استجابة للزيادة السكانية.
كيف تستعد الحكومة لتبعات التقشف المفروض علينا بحكم الأوضاع الاقتصادية؟ وما هى تبعاته فى مجال التعليم على الطبقات الاجتماعية فى مصر؟ وما هى البدائل المتاحة؟
لا أسعى هنا إلى إثبات وجود توجهات ربما لا تتفق مع نية القائمين على السياسات التعليمية، رغم أننى أرى تناغما بين عدد من التوجهات الأخيرة فى سياسات التعليم التى ربما تتجه نحو توسيع دور القطاع الخاص وتقليل الدور المركزى لوزارة التربية والتعليم فى العملية التعليمية.
من المهم هنا الإشارة إلى أن خصخصة التعليم فى مصر أمر واقع، فلا يمكن الحديث عن مجانية التعليم مع المليارات التى ينفقها أولياء الأمور سنويا على الدروس الخصوصية والكتب الخارجية.
هذا المقال يسعى إلى طرح أسئلة أراها تستحق النقاش، خاصة أن بعض التوجهات الحالية ربما لا تكون فى صالح الطبقات الاجتماعية الأقل دخلا.
• • •
أول ما يلفت النظر أنه منذ عام 2022، بدأت تظهر توجهات للإقرار بتراجع دور التعليم الرسمى، والاعتراف بدور التعليم غير الرسمى، ويقع فى القلب من هذا التعليم غير الرسمى منظومة الدروس الخصوصية.
ربما يكون هذا التوجه من قبيل الاعتراف بالأمر الواقع. فقد تراجع دور المدرسة كمساحة للتعليم، وحلت محلها الدروس الخصوصية، حتى أن كثيرا من طلبة وطالبات الثانوية العامة فى مصر صاروا لا يعرفون المدرسين فى مدرستهم، بل إن بعض المدارس من الأساس لا تخصص فصولا دراسية لتدريس مقررات الثانوية العامة! كما تراجع دور الكتاب المدرسى، وحلت محله الكتب الخارجية. ومازالت الحكومة تنفق مليارات الجنيهات لطباعة الكتب المدرسية، إلى جانب تكاليف التابلت.
وكان تصريح وزير التعليم الدكتور رضا حجازى فى بداية توليه منصبه بخصوص تقنين «سناتر»، أو مراكز، الدروس الخصوصية صادما. لم يكن مصدر الصدمة هو القبول بدور السناتر الذى صار مركزيا فى العملية التعليمية، بل كان مصدر الصدمة هو ما اعتبره البعض إعلانا لاستسلام الوزارة لهيمنة الدروس الخصوصية على العملية التعليمية، وانزواء التعليم الرسمى إلى ركن مظلم فى المنظومة، لذا أسرع الوزير والمتحدث الرسمى للوزارة بالتأكيد على أنه لا تراجع عن دور المدرسة، وأنها فى القلب من جهود الإصلاح.
تزامن هذا التصريح مع قيام صندوق مصر السيادى فى أكتوبر 2022 بالاستحواذ على حصة أغلبية فى أحد أوسع الكتب الخارجية انتشارا فى مصر، وأقدمها على الإطلاق، وذلك من خلال تحالف مع منصة مصر التعليمية، وهى شركة ساهم الصندوق السيادى فى تأسيسها بالشراكة مع شركة إى إف جى هيرمس، وشركة GEMS Education Global الإماراتية.
لقد نشأ صندوق مصر السيادى عام 2018 كصندوق استثمارى يعمل على غرار صناديق سيادية أخرى منتشرة حول العالم، مثل الصناديق السعودية والقطرية والإماراتية، بهدف تعظيم الاستفادة من أصول الدولة وتشجيع استثمارات القطاع الخاص.
لذا فإن استثمار الصندوق السيادى فى الكتب الخارجية يعد قرارا رشيدا من الناحية الاقتصادية، فهو يفتح سوقا تشمل نحو 24 مليون طالب وطالبة فى مرحلة التعليم قبل الجامعى يعتمد غالبيتهم على الكتب الخارجية كوسيلة تعليمية.
كما أن استثمار الصندوق السيادى فى الكتب الخارجية ليس استثمارا تعليميا فحسب، إذ تستثمر منصة مصر التعليمية التى يمتلكها الصندوق بالشراكة مع جهات أخرى فى إنشاء مدارس دولية تهدف إلى إتاحة تعليم متميز بالمعايير المصرية ومناسب، ولو نسبيا، لقدرات الطبقات ذات الدخل فوق المتوسط.
ولكن طرح وزير التعليم بخصوص سناتر الدروس الخصوصية ودخول الصندوق السيادى إلى مجال التعليم، خاصة الكتب الخارجية، لهما أبعاد تعليمية وليس فقط اقتصادية.
بالنسبة لسناتر الدروس الخصوصية، فهى تشغل مساحة هامة فى العملية التعليمية، شئنا أم أبينا. وقد اشتمل طرح وزير التعليم على أهمية تنظيم هذه المراكز وإمكانية إدارتها من قبل شركات متخصصة، وهى أمور ذات أبعاد تعليمية وتربوية، وربما يكون لها عوائد اقتصادية تستفيد منها الوزارة فى خطط إصلاح التعليم، خاصة أن التعامل مع شركات للخدمات التعليمية قد حظى باهتمام خاص منذ عهد وزير التعليم السابق طارق شوقى.
كذلك اهتم الصندوق السيادى بتقديم استحواذه على حصة أغلبية فى أحد الكتب الخارجية على أنه مساهمة تعليمية وليس فقط صفقة اقتصادية، حيث وصفه أيمن سليمان، المدير التنفيذى للصندوق، خلال المؤتمر الاقتصادى المنعقد فى أكتوبر 2022 برعاية رئيس الجمهورية على أنه استثمار فى التعليم الرقمى، ويأتى فى إطار رقمنة المناهج والكتب المساعدة.
بعبارة أخرى، يطرح الصندوق السيادى استثماراته التعليمية باستخدام لغة تتماشى مع لغة ومفردات استراتيجية إصلاح التعليم التى أطلقها وزير التعليم السابق، الدكتور طارق شوقى، عام 2018، خاصة فى الجزء المتعلق باستخدام تكنولوجيا التعليم.
• • •
إذا اتفقنا أن السياسات أو المقترحات الأخيرة سواء فيما يتعلق بسناتر الدروس الخصوصية أو الكتب الخارجية أو الاستثمارات التعليمية لها أبعاد تعليمية وتربوية واجتماعية إلى جانب أبعادها الاقتصادية والاستثمارية، يكون من المناسب أن نسأل عن تأثيرات هذه السياسات على العملية التعليمية، والأطراف المستفيدة والخاسرة من هذه التوجهات، وبدائل الدعم الذى يمكن أن تقدمه الحكومة للخاسرين.
بداية، ينبغى التأكيد أن فتح المجال للاستثمارات التعليمية ليس جديدا فى الحالة المصرية، كما أنه توجه عالمى. كذلك فإن الضرائب على التعليم الخاص بأنواعه هو سياسة قائمة، بما فى ذلك الضرائب على الدروس الخصوصية. وتفرض وزارة التعليم رسوما لمنح تراخيص إصدار الكتب الخارجية، سعيا لتحقيق استفادة مادية بعد أن فرضت الكتب الخارجية نفسها كأمر واقع يتحدى القانون، إلا أن التوجهات الأخيرة فيها ما قد يوحى أن الحكومة ترفع يدها عن بعض مناحى منظومة التعليم، دون رؤية واضحة للبدائل.
رغم ما اعترى استراتيجية إصلاح التعليم فى 2018 من نواقص وما صاحبها من مشكلات فى التطبيق، إلا أنها عكست مسعى وزارة التعليم لقيادة المنظومة التعليمية. ودخل الوزير طارق شوقى فى مواجهات مباشرة مع سناتر الدروس الخصوصية ودور نشر الكتب الخارجية، بعد رفضه استمرار الوزارة فى إصدار تراخيص لهذه الكتب دون مراعاة لحقوق وزارة التعليم. الآن يظهر توجه خافت يقوم على رفع يد الحكومة عن تغيير السياسات أو السعى للتأثير فى توجهات السياسة التعليمية. على سبيل المثال، اختفى من ساحات الإعلام أى نقاش حول استحواذ الصندوق السيادى على حصة أغلبية فى أحد الكتب الخارجية، حتى أن مذيعة فى أحد الفضائيات سألت عضوا بلجنة التعليم فى مجلس النواب المصرى عن رأيه فى صفقة الصندوق السيادى فى الكتب الخارجية، فكان رده أنه لم يسمع بالموضوع.
كذلك خلا طرح الدكتور رضا حجازى وزير التعليم بخصوص تقنين مراكز الدروس الخصوصية من رؤية متكاملة لدور هذه المراكز فى التعليم وبناء مهارات الطلاب والطالبات، ولأدوار القطاعين العام والخاص، وكذلك القطاع الأهلى، فى إصلاح المنظومة التعليمية، وتصور حول دور الدولة فى تمويل وإدارة التعليم.
ربما يكون فى فتح الباب لمزيد من استثمارات القطاعين الخاص والأهلى حل لبعض مشكلات التعليم فى مصر، بما فيها حاجة الطبقات الاجتماعية من ذوى الدخول المتوسطة والعليا لمزيد من المدارس التى تقدم تعليما دوليا بتكاليف أكثر معقولية من الموجود حاليا، خاصة أن الإقبال على هذا النوع من المدارس رغم الارتفاع المبالغ فى أسعارها قد جعل قوائم الانتظار أمامها أمرا طبيعيا.
ومع هذا علينا أن نتذكر حقيقة أن أكثر من 90% من طلاب وطالبات التعليم قبل الجامعى فى مصر يلتحقون بمدارس حكومية، فما هى الخطة للتعامل مع ضغط النفقات مع الحاجة للتوسع فى الإنفاق على التعليم؟
أشار الدكتور رضا حجازى إلى أن تكلفة إنشاء وتأسيس الفصل كانت تقدر بنحو 500 ألف جنيه منذ 4 سنوات، بينما تتعدى التكلفة الآن 800 ألف جنيه.
كيف يمكن توفير التكاليف اللازمة للتوسعات الضرورية؟ وهل يكفى دخول الاستثمارات التعليمية لتوفير احتياجات ما يقرب من 24 مليون طالب وطالبة لا تتاح لمعظمهم فرص الالتحاق بالتعليم الدولى أو الخاص؟ لا نجد برنامجا واضحا فى هذا الشأن.
على الجهات المسئولة أن تطرح تصورا متكاملا لأدوار الدولة والقطاع الخاص والأهلى فى منظومة التعليم، وباستخدام لغة الإدارة العامة الحديثة فى تسعينيات القرن العشرين، فإن الدولة لا ينبغى عليها دائما أن تدفع المركب بالمجداف، فالقطاع الخاص أو الأهلى يمكن أن يلعب هذا الدور، ولكن ليس بمقدور الدولة أبدا أن تتخلى عن القيادة والتوجيه.