مع توقف المرور تماماً فى ذاك الشارع الحيوى بأحد أحياء القاهرة الراقية، ومع الملل الذى أصاب ركاب السيارات، ومحاولات الانشغال بأى شىء حتى ينفض الاشتباك ويتحرك الطريق، أثارت انتباهى لافتة منصوبة على الرصيف المجاور، كُتِبَت عليها بعض الإرشادات العامة والنصائح. اللافتة مُعتَنى بها، مُزَركَشة ومُلَوَّنة، والعبارات التى تحملها منسقة الخطوط، والفراغات فيما بينها مدروسة بصورة جيدة. الشكل العام جميل، لكن اللافت فيها لم يكن الشكل بل المحتوى؛ تنتهى الإرشادات بعبارة: «ولما نغلط نقول أنا آسف».
ذكرتنى اللافتة بغلاف الكراسات القديمة، التى كانت تُسَلَّمُ للطلبة فى بداية العام الدراسى، والتى كان غلافها يحوى مجموعة من التعليمات والمواعظ. رحت أراجعها فى ذهنى فاكتشفت أن العبارات شديدة التشابه، حتى الجملة الشهيرة «النظافة من الإيمان» كانت موجودة على كل مِن اللافتة والكراس، وقد انتبهت أخيراً إلى أن الاختلاف الوحيد بينهما، لم يكن كامناً فى المضمون، بل فى الإخراج أو الشكل الأخير للمعلومة المُقَدَّمَة، حيث حفلت الصياغات اللغوية الموجودة على اللافتة بالأخطاء، على عكس غلاف الكراس الذى كان يلتزم دائماً بالعربية الفصحى السليمة.
•••
حضرت منذ شهر تقريباً مؤتمراً أقامته دار الكتب والوثائق القومية، احتفالاً باليوم العالمى للغة العربية، الذى يوافق للثامن عشر من ديسمبر، وهو يوم تم إدراجه على جدول المناسبات السنوية التى تحتفل بها منظمة اليونيسكو. لم يتجاوز عدد المشاركين فى المؤتمر الثلاثين شخصاً، أغلبهم من العاملين فى مجال الصحافة والإعلام، الذين حضروا مُكَلَّفين بتغطية الفعاليات، والندوات، ووِرَش العمل.
دارت معظم النقاشات حول التدهور الذى أصاب حال اللغة العربية، وتداول قِسمٌ من الحضور أفكاراً حول تبسيط اللغة وتخفيفها، والتغاضى عن تدريس بعض القواعد التى تُعتَبَر عسيرة، حتى لا ينفر الطلاب منها. قَدَّم آخرون وجهة نظر مناوئة جديرة بالتأمل؛ لا ترى الأزمة فى صعوبة تَعَلُّم النحو والصرف ولا فى التعامل مع المشتقات غير المألوفة. وجهة نظر لا ترى المشكلة فى اللغة نفسها، بل فى العجز والانحدار اللذين أصابا المتلاسنين بها، وفى الضعف والترهل اللذين صارا سمتين غالبتين على المنتج الفكرى والعلمى لأصحابها.
•••
يُقالُ إن قدرة الشعوب على إنتاج المعرفة والحضارة، تُشَكِّلُ عاملاً حاسماً فى ارتقاء لغتها ومواكبتها لكل تطور، وربما يكون فى هذا القول ردٌ على الجدل المُثَار حول المواد الدستورية، الخاصة بتعريب العلوم على مستوى الجامعات المصرية، وهو جدل تزامن مع وقت انعقاد المؤتمر تقريباً، وأظن أن النظر إلى فكرة «التعريب» باعتبارها خط الدفاع الأول عن اللغة العربية، أو الوسيلة الرئيسة لحمايتها من الانهيار، لن يجدى كثيراً، فثمة خطوات أخرى يُفَضَّلُ أن تسبق تلك الفكرة، أو على أقل تقدير أن تسير موازية لها، يأتى على رأس تلك الخطوات بالطبع، العمل على الانتقال من خانة مستهلكى المعرفة إلى خانة صانعيها ومصدريها.
اتفق الحضور على أن تدريس اللغة بشكل سليم، يجب أن يحتل قمة الأولويات، فقد وصل الأمر إلى أن يخطئ بعض المعلمين الهجاء، وصياغة المعانى وتركيب العبارات. مر برأسى عدد من الكتب التى درستها فى أحد أهم فروع العلوم الإنسانية، وتذكرت كيف أمسكت ذاك الوقت بالقلم، ورحت أضع خطوطاً أسفل الأخطاء الواردة فى معظم الكتب، بالقدر الذى سمحت به معرفتى المتواضعة بقواعد اللغة، وكيف صادفت جملاً كثيرة تُفتَتَح كما هى العادة بالمبتدأ، ثم يغيب عنها الخبر فلا تؤدى أى معنى، ولا يستوعب قارئها شيئاً. ما من شك أن الفشل فى الإمساك بناصية اللغة ينعكس سلباً على التعبير عن الأفكار، وبالتالى على إمكانية تطوير العلوم، وإضافة الجديد إليها.
•••
يتحدث العربية كلغة أم، ما يزيد قليلاً على أربعمائة مليون شخص كما تشير الإحصاءات، موزعين على اثنتين وعشرين دولة، تتجدد اللغة كل يوم على ألسنتهم وتضاف إليها مفردات متنوعة، كما تطفو على السطح كلمات لم يكن استخدامها مألوفاً من قبل. اكتشفت خلال رحلة بحث سريعة، أن بعض الألفاظ التى تبدو مستحدثة أو دخيلة على اللغة العربية ولا تمت لها بصلة، إنما هى قديمة جداً وموجودة فى المعاجم؛ أدهشنى على سبيل المثال أن أجد كلمة «رِوِش» ــ التى يستعملها قطاع واسع من الشباب باعتبارها من المفردات العصرية ــ فى القاموس، كلمة عربية فصحى، الصفة منها «أروَش» ومؤنثها «روشاء»، ومعناها خفيف / خفيفة العقل، ومثلها عثرت على كلمات كثيرة.
•••
صادفت أيضاً فى تلك الرحلة إعلاناً ورقياً عن البيرة، يبدو أنه نُشِرَ فى عام 1957 بإحدى المجلات الدورية الشهيرة، وقد كُتِبَ الإعلان على هيئة أبيات من الزجل، ولدهشتى كانت كلماته زاخرة بعلامات الرفع والنصب والجر، وأنقلها هنا كما وجدتها، بعلاماتها، ودون تَصَرُّف:
«سُكوتُ الأحِبّاءِ عِندَ اللقَاءْ يُصيبُ الهَوى فيُميتُ الوفَاءْ..
ادعُوا لنَا الجِنيّةَ السَّاحِرةْ «ستلاّ» ذَاتِ النّجَمةِ البَاهِرةْ..
هِيَ «ستلاّ» بِكَفَّينا رَسُولٌ بَينَ قَلْبيْنَا».
مَرَّ مِن الزمن بين إعلان بيرة «ستِلا»، واللافتة الأنيقة التى توقفت أمامها منذ شهور قليلة، ما يزيد قليلاً على نصف قرن، جرى خلاله ما جرى.