مُناقشة مُتكررة في جلسات الأصدقاء، ومُمتدة على مواقع التواصل الاجتماعي، جدلٌ لا ينقضي حول جدوى مُواصَلة معركة؛ تلوح نهايتُها بعيدة، وخسائرها كثيرة، وأدواتُ خوضها قليلة حتى لتكاد تكون مَعدومة. ينقسم الناسُ إزاءها في العادة، بين حاملٍ لألوية النضال، وبين داعٍ لرفع الرايات البيضاء، يؤمن الأولُ بجدوى المقاومةِ، ويعتقد الثاني في لا جدواها، ولكُلٍّ منهما أسبابٌ ومبررات.
***
الجدوى في المعاجمِ العربية هي ”العَطية“، وهي المطر الذي لا يُدرَك أقصاه في تعريفاتٍ أخرى. هي في الأحوال جميعها قيمةٌ إيجابية، خيرٌ يعود على المرء، ويُؤكِّد أن جهدًا مَبذولًا لم يذهب هباءً، وأن قرارًا صادفه صوابٌ، وأن فعلًا أُنجِزَ وتحقَّق منه مُراد.
***
نسأل أنفسَنا مِرارًا؛ ما الجدوى مِن هذا أو ذاك؟ يُطرَح السؤالُ في الأغلب كلَّما كان علينا اتخاذ موقفٍ ما؛ لا نثقُ في العائد مِن ورائه، أو نرى أنه لن يضيف شيئًا، أو أن تبعاتَه قد يغلب عليها ما يؤذي لا ما ينفع. نسأل ما الجدوى مِن نزالٍ نعرف نتيجتَه مُسبقًا، ونعرف أن مُحصِّلته النهائية ليست مَكسبًا بل خسارة. نسألُ والغاية مِن السؤال أن نطمئن، وأن نجد ما نستند إليه في دفاعنا عن درب نقف على عتباته، وعن مَسلَك نشارف على انتهاجه.
***
يُقال دومًا إن العبرةَ بالخواتيم، بعضُ المرات قد تكون الخاتمةُ سعيدةً، وفي مراتٍ أُخرى تكون مأساةً وكارثةً، ولهذه وتلك جدوى؛ فثمَّة طريقٌ نقطعه مِن نقطة الصفر، حتى نصل إلى خطِّ النهاية، طريقٌ تحفُّه عديد المصاعب؛ ربما، وتكتنفه ضغوطٌ وعراقيل؛ بطبيعة الحال، مع ذلك تَتَحَقَّق خلالُه انتصاراتٌ صغيرةٌ مُتناثرة. العبرةُ عند الحكماءِ مِن الناس، وأصحابِ التجارب والخبرات المديدة، بالمُحصِّلة الكُليّة الشاملة، باللبِنات التي تتراص مُتجاورةً وتتراكم، ثم تعلو رأسًا لتصنع جزءًا مِن بناءٍ كبير.
***
لا يُقْدِم الأشخاصُ المنظَّمون على أي فعل إلا بعد دراسته بتأن، والتأكد مِن جدواه، أما الفوضويون فيندفعون بلا أدنى حِساب، مع ذلك يُحرِز الفريقان نجاحات متنوعة، كما يمنيان بإخفاقات لا مَهرب مِنها. مَعرفةُ النِسب والاحتمالات منذ البداية قد تُقلل مِن المُخاطرة، وتُخفِّف مشاعرَ الذنب واللوم عند الفشل، لذا تحتل دراساتُ الجدوى عند أصحابِ الأعمال المُحترفين أهميةً خاصة، تُلازم المَشاريع وتسبقُ تنفيذها، لا يُلقي أحدٌ بثقله وبقسمٍ مِن رأس ماله، دون إحاطةً وافيةً بما ظهر وخفى من تفصيلات، ولا يغامر أحد بما قد يورده مَورد التهلكة، ويُسقِطه سقطةً مُدوية قد تُنهي وجوده.
***
هل مِن الجدوى أن نحسبَ لكُل شيءٍ جدواه؟ تفقد بعضُ الأمورِ مُتعتها إن أمسَت مَدروسة مِن الجوانب كافة، مَبحوثةً تحت المِجهر. تفقد بعضُ التجاربُ تلقائيتها وعفويتها وقوة اندفاعها، إذا غرقت في التفاصيل وتاهت، وتقلَّصت فيها نسبةُ المغامرة ومساحةُ المجهول. على كل حال، مِن الناس مَن يُجري دراسة جدوى لحياته العاطفية، ويخططها ويتعامل معها، وِفقًا لما يصل إليه مِن نتائج. تتحول المشاعر إلى أرقام، وتغدو مِثلها مثل مساحة السَكَن وعدد الأجهزة الكهربائية وقطع الأثاث؛ مَوضعًا للتقييم الحسيّ والحسابات، فإذا فاقت الإيجابيات المطروحة قائمة السلبيات، أعلن الطرفان مشروع الارتباط، وأقرا مَنفَعته وجدواه.
***
تعبيرًا مُطلقًا عن اللا جدوى؛ اعتاد كثيرنا أن يلقي العبارةَ الخالدةَ: ”مافيش فايدة“، ليعلن مِن خلالها فُقدانِ الأمل في تغيُّر الحال، وإثمار الجهود. القولُ مَنسوب لسعد زغلول، وهو أغلب الظنّ صحيح، لكن السياق الذي صدر فيه لا يزال مَحَلَّ جدل. قيل إن قائد ثورة ١٩١٩ قصد بعبارته استفحال المرضِ العضويّ الذي أَلَمَّ به، بما لا يجدي معه علاجٌ ولا دواء، وقيل إنه قَصد الأوضاعَ السياسية المُزرية التي لم يتمكَّن مِن تبديلها. يختلف المثقفون على سعد ويتفقون، ولا يكفّ هذا الفريق أو ذاك عن ترديد المأثور. نتداوله جميعًا حتى لحظتنا هذه، كلما أعيتنا الحيلُ، وانسدت بنا السبلُ، وأحنى رؤوسنا العجزُ، وقررنا أن نكُفَّ عن المحاولة: ”ما فيش فايدة“.
***
منذ سنوات سبع، خرج مئاتُ آلاف الأشخاص؛ صغارًا وكبارًا، غير عابئين بقسوة الشتاء واشتداد الريح، افترشوا الأرضَ لأيام، وفرضوا إرادتَهم في وقتٍ قصير، وتحققَّ مَطلبهم الآني. خانهم فيما بعد التوفيقُ، وأصابهم التشوشُ، وضلّت اختياراتُهم اللاحقة التي لو أصابت؛ لغيرت وجه التاريخ. قيل إنما تعرَّض له حِراك يناير الثوريّ مِن إجهاض، هو نتاجٌ طبيعيّ لغياب قيادة رشيدة واعية، ورأي مَدروس سَديد. قيل إن الصحوةَ كانت بلا جدوى، وإن الفورةَ كانت عقيمةً؛ لا فائدة لها ولا ولد. عن نفسي لا أنكر فشلًا وقع على الرؤوس كأثقل ما يكون، لكني أُصرُّ على جدوى التجربةِ، وروعتِها، بل وضرورتِها الحتميّة، فلا درس يُستوعَب إلا بتطبيق عمليّ، ولا قائمة لشعبٍ إلا بكفاحٍ طويل.
***