بصرف النظر عن اسم رئيس الجمهورية القادم، وأيا كانت قناعاته السياسية، أو دوائر الأشخاص المحيطين به، فإنه سيواجه إشكالية جوهرية هى اختيار القيادات التى تتولى زمام المؤسسات العامة فى ظل جهاز دولة مترهل ضعيف الانجاز. إصلاح هذا الجهاز يكون بقوانين ولوائح جديدة، وقيادات قادرة على العمل، وبث روح الإنجاز فى المؤسسات العامة.
الأحزاب والقوى السياسية لا تمتلك قيادات، أو كفاءات لديها خبرات فنية وإدارية ورؤية سياسية تؤهلها لتسيير مؤسسات الدولة فى اتجاه الانجاز التنموى. هذه القيادات، عدا استثناءات قليلة، تعرف من السياسة المساجلات، والحديث فى القضايا الكبرى ــ أى النضال المجانى، وبعضها يجيد تكتيكات التحرك على مستوى الشارع تظاهرا، واشتباكا. هل تمتلك هذه القوى خبراء شبابا، أو ينتمون إلى جيل الوسط، يستطيعون وضع وتنفيذ سياسات أو خطط وبرامج فى مجالات التنمية الاجتماعية، الإصلاح الاقتصادى، تطوير الخدمات العامة؟ هل من بينهم خبراء فى تطوير التعليم، الصحة، البحث العلمى، مؤسسات الثقافة، تطوير النقل والمواصلات.... الخ. بالتأكيد هناك فى جهاز الدولة المصرية خبرات تعلمت وتدربت على بعض هذه القضايا أو كلها، قد تكون منفتحة أو محدودة الأفق، ولكن فى دولة تتطلع إلى الديمقراطية ينبغى أن تمتلك الأحزاب، التى تريد أن تحوز أغلبية برلمانية، وتشكل حكومة، كفاءات بشرية تستطيع إدارة دولاب الدولة.
التجارب السياسية على مدار السنوات الثلاث الماضية كشفت عن غياب رؤية، وضعف فى مستوى الكوادر السياسية، وخطايا «أخونة الدولة» من خلال موالين دون كفاءات، لا تختلف كثيرا فى حالة وصول قوى سياسية أخرى للسلطة. قد لا تتجه إلى الهيمنة على جهاز الدولة، لكنها فى الوقت نفسه لن تستطيع تسيير شئونه بقدراتها الذاتية. لا أريد أن أكون قاسيا على القوى السياسية لأنها على مدار نصف قرن، أو ما يزيد، لم تمنح فرصا حقيقية لتطوير قدراتها، أو اجتذاب كوادر شابة تصقل مهاراتها وقدراتها، ولم تتمكن من التواصل مع الطبقة الوسطى حاملة مشروع التقدم فى أى مجتمع. وكانت النتيجة عشية 25 يناير عام 2011م أحزاب متيبسة المفاصل، طاردة أكثر من كونها مستقبلة، وقوى شبابية فى الشارع لديها طاقة، ورغبة فى التغيير، لكنها تفتقر إلى الخبرات والكفاءات السياسية والفنية والإدارية.
الدولة المصرية ليست مستقيلة أو محتجبة، لكنها متداخلة فى حياة مواطنيها، سلبا وايجابا، وسيضطر أى شخص يصل إلى الحكم إلى الاعتماد على جهاز دولة يريد إصلاحه. أفضل ما يطمح فيه أى رئيس قادم هو البحث والتنقيب عن قيادات جيدة، نزيهة، لديها رؤية من قلب جهاز الدولة يمكن أن تعينه على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية فى دولة تعطلت فيها عجلة الانتاج، وتواضعت مصادرها المالية، وزادت مساحات التمرد الوظيفى، والاحتجاج الفئوى، وارتفع سقف المطالب، التى يفتقر بعضها إلى المنطق. مؤسسات لم تعد تنتج، وبالمقاييس الاقتصادية تخسر، ويريد العاملون فيها رواتب وحوافز وارباح ومكآفات. كيف يستقيم ذلك؟ هذه ثقافة ينبغى أن تتغير. وإن لم تتغير فإن جهاز الدولة الذى انتقده ــ تقريبا ــ كل رؤساء مصر على مدار ستين عاما فى خطبهم سيقف عقبة كؤود أمام التغيير لأن ذاتيته تسبق مسئولياته