منذ أن سلكت مصر طريق التعويم المدار للعملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكى، كانت النتيجة المنطقية المباشرة لعملية التخفيض فى قيمة الجنيه المصرى فى نوفمبر 2016 هى ارتفاع معدلات التضخم بنسب كبيرة اقتربت من 40% فى عام التعويم، لتعكس مقدار ما فقده الجنيه من قوة شرائية مقابل الدولار الأمريكى. روشتة البنك المركزى فى احتواء الموجة التضخمية الأولى التالية على صدمة التعويم كانت كلاسيكية، واتجهت إلى رفع أسعار الفائدة بمائتى نقطة أساس لامتصاص فائض المعروض النقدى. لكن معدلات التضخم ظلت فى اتجاه صاعد وبصورة أربكت الأسواق. حينها أطلقت وغيرى من الاقتصاديين صيحات التحذير من الانجراف خلف رفع أسعار الفائدة البنكية إلى مستويات تؤدى إلى أزمتين خطيرتين يصعب تجاوزهما.
فمن ناحية يزيد ارتفاع أسعار الفائدة من فاتورة خدمة الدين المحلى التى جاوزت ثلث المصروفات الحكومية فى موازنات ما بعد التعويم، وقد كانت تمثل فى السابق نحو ربع الموازنة العامة للدولة. ومن ناحية أخرى تلعب أسعار الفائدة المرتفعة دورا مثبطا للاستثمار، فما هو المشروع الاستثمارى الذى يمكنه أن يحقق عائدا على الاستثمار يصل أو حتى يقترب من 20% تمنحها البنوك التجارية «خالية من المخاطر» فى هيئة عائد على شهادات الاستثمار أو أذون الخزانة؟.. الأزمة فى هذا الجانب لها أثر دائرى خطير يعمق من تداعيات تضخم الأسعار، حيث يؤدى تراجع الاستثمار إلى تراجع الإنتاج ومن ثم يقل المعروض من السلع والخدمات، الأمر الذى يؤدى بشكل مباشر إلى ارتفاع الأسعار (أى التضخم) بفرض ثبات الطلب فى الأجل القصير.
هذا كان مدى نقاش لى مع أحد رجال صناعة السياسة النقدية فى مصر وهو ذو خلفية مصرفية بالطبع، إذ ناشدته خلال إحدى الندوات أن يميز فى التعامل مع التضخم الذى تعانيه البلاد بين ما كان نتيجة لصدمة فى العرض وما هو نتيجة لصدمة فى الطلب.
فالتضخم الذى ضرب البلاد بشدة ليس نتيجة لزيادة الطلب الفعال (المدعوم بالقوى الشرائية) ولكنه بالأحرى نتيجة لانخفاض المعروض السلعى والخدمى الناشئ عن تراجع الواردات نهائية الصنع، وانخفاض الإنتاج على خلفية ارتفاع تكاليف مدخلاته المستوردة بالعملة الصعبة.
ومن ثم فعلاج هذا النوع من التضخم هو تشجيع الاستثمار ومن ورائه الإنتاج بتخفيض أسعار الفائدة (ضمن محفزات الاستثمار الأخرى) وليس برفع أسعارها! الرد الذى جاءنى من صديقى المسئول النقدى هو أننا بصدد نوعين من التضخم: أحدهما مزمن وسببه جانب الطلب، والآخر عارض وسببه جانب العرض. وأن قرارات الرفع المنتظم لأسعار الفائدة الدائنة والمدينة تستهدف التضخم المزمن، لأن العارض سوف يزول تلقائيا. حقيقة اختلفت معه بشدة ومازلت أختلف، لأن ما اعتبره صديقنا سببا عارضا للتضخم هو فى الواقع أساس الداء، وما ظنه بتشخيصه مزمنا علينا أن ننتبه فيه إلى محركاته الأصلية، والتى يكمن علاجها بقرارات من البنك المركزى ذاته ليس من بينها رفع أسعار الفائدة. بتعبير آخر، زيادة الطلب على العرض أو فائض الطلب مرجعه سببان: أولهما زيادة المعروض النقدى نتيجة الإفراط فى طباعة البنكنوت، وثانيهما الزيادة السكانية الطبيعية التى لا يقابلها إنتاج يشبع حاجات السكان المتزايدة. بالتالى فقرار المركزى للتعامل مع هذا النوع من تضخم الأسعار يكمن فى خفض إصدار البنكنوت من ناحية، والحفاظ على مستويات منخفضة لأسعار الفائدة جاذبة للاستثمار المباشر، عوضا عن جذب الأموال الساخنة بزيادة العائد على أدوات الدين الحكومية قصيرة الأجل.
كذلك تستجيب استثمارات الحافظة بشكل فعال لتخفيض أسعار الفائدة، وترتفع مؤشرات الأسهم فى بورصة الأوراق المالية كنتيجة طبيعية لتراجع تنافسية بدائل الاستثمار الأخرى فى سوق النقد، والمتمثلة فى الأوعية الادخارية خالية المخاطر التى تصدرها أو تديرها البنوك التجارية.
***
أخيرا كان رئيس لجنة الصناعة بمجلس النواب يطلق صيحة تحذير من تثبيط أسعار الفائدة المرتفعة للاستثمار، فإذا أضفنا إلى ذلك شيئا من عدم اليقين بخصوص اتجاهات أسعار الطاقة للمنتج الصناعى والزراعى بل والخدمى فى الأجلين القصير والمتوسط، يصبح عزوف الاستثمار الأجنبى عن الاستثمار المباشر فى مجالات كثيفة رأس المال وكثيفة استخدام الطاقة أمرا مبررا. المزايا التنافسية التى طالما تمتع بها الاقتصاد المصرى كانت تتمثل فى أسعار الفائدة المستقرة، والأجور المنخفضة، وأسعار الطاقة الرخيصة. فإذا انتبهنا إلى كون الأجور الرخيصة نسبيا يجب أن ترتبط بإنتاجية مقبولة للعامل المؤهل لخوض العملية الإنتاجية. وإلى كون عناصر الجذب الأخرى لم تعد كسابق عهدها، فإن عوامل جذب الاستثمار فى مصر تحتاج إلى رؤية جديدة تتسق مع أهداف السياسة النقدية، واستراتيجية إنتاج وتوزيع الطاقة، وأفق تطوير التعليم الفنى والمهنى.
القرار الأخير بخفض أسعار الفائدة بواقع 100 نقطة أساس بعد رفعها أكثر من مرة بواقع 700 نقطة أساس منذ قرار التعويم، ثم تثبيتها عند مستويات مرتفعة بالفعل هو قرار فى الاتجاه الصحيح، لا سيما إذا اتصل بقرارات أخرى تعزز من قيمة العملة المحلية وتحول دون الوقوع فى فخ السيولة الذى يؤدى إلى سحب المواطنين لمدخراتهم من البنوك عند شعورهم بتجاوز معدلات التضخم لأى عائد على الادخار فى البنك. المواطن العادى لن يقرر سريعا، لكن المواطن الذى يمتلك حسا استثماريا سوف يبحث عن أوعية أخرى تحقق له عائدا أكبر. حتى يومنا هذا مازال الاستثمار العقارى يوفر بديلا جاذبا لتلك الفوائض الحائرة الهاربة من البنوك ومن الاستثمار الصناعى والزراعى اللذين لا يحققان عائدا يقترب حتى من عائد الودائع البنكية! الاستثمار العقارى استثمار ميت، يخلق فرص عمل مؤقتة تنتهى بانتهاء مرحلة البناء، ثم لا يدر عائدا على الاقتصاد إذ تتراكم الكتل الأسمنتية فى وحدات سكنية وتجارية أغلبها مغلق ينتظر عملية بيع استثنائية تخلق سعر إقفال وهميا فى بورصة عقارية جافة من السيولة. بتعبير أبسط لغير المختصين، فإنك إذا تابعت أسعار الشقق أو الفيلات السكنية فى منتجع جديد تجد أنها ترتفع سريعا بمعدل يحقق (نظريا) لملاك تلك الوحدات عائدا على استثماراتهم يصل إلى 50% فى عام واحد! لكن هذا العائد غير محقق لأن الأسعار لا تعكس عمليات بيع وشراء فعلية، ولفهم ذلك تخيل أن شقتك ورقة مالية فى البورصة وأن سعرها يزيد نتيجة لعملية شراء واحدة تحدث كل حين لكنك إذا عرضتها للبيع بآخر سعر محقق (سعر الإقفال) فإنك سوف تكون محظوظا لو وجدت مشتريا لها. هذا يعيدنا إلى حديث الفقاعة العقارية، وما إذا كانت وهما أم حقيقة.. تلك الفقاعة مثار جدل كبير ليس موضعه هذا المقال. لكن باختصار شديد أى فقاعة لن تنفجر فى وعاء لا يجد حتى اليوم منافسا جادا يحقق لصاحبه عائدا مرتفعا ومستداما.
باستقرار أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة جاذبة للاستثمار، ووضوح الخارطة المستقبلية لأسعار الكهرباء والغاز للاستخدام الإنتاجى، وربط التعليم الفنى باحتياجات سوق العمل فى المجالات التى تشجع الدولة الاستثمار فيها والتى تحقق قيمة مضافة مرتفعة، وتجاوز محفزات الاستثمار للإصلاحات التشريعية والتنظيمية لتحقق وفورات فعلية للمستثمر الوطنى والأجنبى تنعكس على دراسات الجدوى ــ سوف يتم تعظيم الاستثمار، وزيادة الناتج، واستقرار المستوى العام للأسعار عند مستويات لا تثقل كاهل المستهلك ولا المستثمر، علما بأن أهم أهداف السياسة النقدية هو استقرار المستوى العام للأسعار.
رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية