منذ ثلاث سنوات، وبالتحديد فى 19 مارس 2011م، دُعى المصريون للاستفتاء على تعديلات دستور 1971م، لكنهم فى الحقيقة بدأوا رحلة التدحرج فى خندق الاستقطاب السياسى، والذى شاركت فيه كل الأطراف بما فى ذلك المجلس العسكرى صاحب الولاية السياسية على البلاد فى ذلك الحين.
اعتبرها التيار الإسلامى معركة مبدئية للانفراد بوضع الدستور، واعتبرها المجلس العسكرى تأكيدا لشرعيته، ونظر إليها التيار المدنى على أنها قضية وجود فى دولة تتنازعها أفكار تهدد ثوابتها. نعم للتعديلات التى تعنى الانتخابات البرلمانية أولا ثم الدستور، أما لا للتعديلات التى تعنى أن الدستور أولا ثم الانتخابات. كان التيار الإسلامى يراهن على أغلبية برلمانية قادمة، والتيار المدنى يستشعر هزيمة فى الأفق، بالتالى كان الاستقطاب والاستقطاب المضاد الخيار الأساسى. كفة الذين قالوا «نعم» رجحت فى النهاية، ولكن بعد أن بذرت بذور الاستقطاب بعد أسابيع من مشاهد التوحد السياسى فى ميدان التحرير. استثار التيار الإسلامى فى الدعاية كل صور الفرز على أساس دينى. سمعنا عن التصويت بنعم للعبور إلى الجنة والبشرى بغزوة الصناديق، ووقعت القوى المدنية، ومعها الأقباط، فى ذات الخندق، وأصبح مشهد الاستفتاء برمته استقطابيا بامتياز. لم نعرف بعد ذلك لحظة سياسية إلا وكان الاستقطاب قرينا لها، وشكلت فترة حكم محمد مرسى استقطابا بين فسطاطين، أحدهما أخذ يضيق تدريجيا حتى انتهى إلى تحالف يضم الإخوان وحلفاءهم، والثانى ضم ليس فقط الخصوم السياسيين من أحزاب وحركات سياسية، ولكن أيضا قطاعات مهمة من جهاز الدولة.
ونحن الآن على مشارف معركة انتخابات رئاسية يلوح فى الأفق استقطاب قديم جديد يتشكل بين «المرشح من خلفية عسكرية» و«المرشح من خلفية سياسية»، وبينهما مساحة ممتدة من المساجلات، ليس بالضرورة بين المرشحين أنفسهم، بقدر ما هى بين قوى وتيارات ومؤسسات وشخصيات حالمة تحمل تناقضات السياسة على مدار الفترة الماضية: الحرية أم الأمن، الديمقراطية أم النظام، ثورة 25 يناير أم ثورة 30 يونيو، ويخالج بعضهم تطلعات وخلافات شخصية مما يرفع منسوب السخونة فى الحملات الانتخابية.
المسألة ليست فى الاختلاف بين مرشحين يحمل كل منهم برنامجا مختلفا، ولكن الخوف أن يضرب الاختلاف ــ هذه المرة ــ أسس بناء النظام السياسى الجديد، ونستقبل تجربة سياسية أخرى لا يسودها التوافق، ويؤرقها دائما سؤال الديمقراطية والحريات، اللعب بالورقة الطائفية، تفسير الثورة المصرية ذاتها، وقد يطول الاستقطاب النظرة إلى مؤسسات رئيسة فى المجتمع تصبح مادة للجدل الانتخابى، والمساجلات الإعلامية، والرغبة فى تحقيق أهداف فى مرمى الخصوم، بصرف النظر عما سوف يترتب على ذلك من تشرذم وفرقة فى وطن مأزوم. مرة أخرى نؤكد أنه يصعب علاج مشكلات الوطن فى ظل الفرقة السياسية، وانتشار العنف والإرهاب، وشعور قطاعات فى المجتمع بأن عقارب الساعة تعود إلى الوراء.
الحل يكمن فى برنامج رئاسى ــ يتجاوز الاستقطاب ــ ويتخذ من «الوفاق الوطنى» عنوانا له، فيه تأكيد على اسس الديمقراطية، والسلم الأهلى، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والمواطنة الكاملة، وحكم القانون، وانفتاح المجال العام، ومحاصرة الإرهاب بالحلول السياسية وليست فقط الأمنية. مصر لا تحتاج إلى مرشحين يتصارعون، ولكن إلى «مشروع وطنى» ينتشلها من عثراتها.