يقع حدثٌ غريبٌ، لا يفسره عقلٌ أو مَنطِق، فتعلن البطلةُ توجُّسها وارتيابها، وقد تستنجد هامسة أو صائحة؛ مِن ذاك الذي خَفِيَ عن العينِ، وأضْمَر الشرَّ: "دَستور يا أسيادنا". يُعزى الحدثُ الذي تستدعيه مُقتضياتُ الحَبكةِ، وتصاريفُ المُخرِج في القصّة، إلى قُوى خفيّة لا يمكن إدراكُها، وتمُر دقائق الفيلم خفيفةً مُسلّية بين نجمات كزينات صدقي وماري منيب وغيرهما، مِمَن مَلكن حضورًا طاغيًا، وحيويةً جارفة. كانت الأجواءُ في الأيام الخوالي تحتمل البساطةَ، وصَرفَ العفريت بكلمةٍ أو إشارة.
***
ثمَّة دَستور بفتح الدال كما في الأفلام، وفي تحية تُلقى تأدبًا على أهل البيت، وثمَّة دُستور بضمّ الدال، وذاك مُصطَلَح ينتمي إلى اللسان الفارسيّ لا العربيّ، ويتركب مِن مَقطعين؛ "دست" بمعنى قاعدة، و"ور" بمعنى صاحب، ومِن اجتماعهما يصبح الدُستور أصلَ القواعدِ وجامعها.
***
يُبَيّن دُستور الدولةِ القواعدَ المُنظّمة لسلطاتها، ولطبيعة الحُكم فيها، كما ينُصُّ على حقوق المواطنين وواجباتهم بغضّ النظر عما يعتنقون مِن أديان وأفكار؛ يحمل لهم ضمانات الحرية، ويفصل حدودًا لكل سُلطة، تحفظ مسارَ العدالة وتحميه. الدُستور في العادةِ قانونٌ أعلى؛ تهتدي به التشريعات الأخرى، ولا يجوز أن تخرقَ ما فيه أو تعتدي عليه، ومِن ثمَّ يشير مَفهومُ "السموّ الدُستوريّ" إلى فوقيته مَوضوعًا؛ بمعنى أن مُحتواه يَجُبُّ القوانين المُعارضة له، وإلى حصانته النسبية التي تمنع العَبَثَ به، في غيابِ إجراءاتٍ مُشدَّدة وصارمة.
***
بدأ تدوينُ الدساتير بصورتها المَعروفة في العصرِ الحديث؛ لكُل بلد دُستورٌ يُلخّص مَبادئَه، ويضع أُسُسَه وأعمدَتَه، ولكُلّ ثورة ناجحة دُستورٌ يصوغ مَكاسَبها، ويُحقّق أهدافَها، ويُنصِف المَغبونين قبلها. تَنُصُّ المادةُ الثانيةُ مِن الدستور الفرنسيّ على شعار الثورةِ المُدوّية؛ حرية، إخاء، مساواة، وقد مَرَّت عقودٌ طويلةٌ والشعار النبيل في مكانه ثابتٌ، لا يخضع لتبديل أو تعديل. حمل دُستور 1923 الصادر بأعقاب الثورة المِصرية المَشهودة؛ ما قّلَّ ودَلَّ، وما أوجَز وأنجَز؛ فعباراته مُحكَمَةٌ، قصيرة، وجُمَله واضحة المَعالم، مُحدَّدة المَقاصِد، لا لَبس فيها ولا التباس. دُستورٌ يبدو في مُجمَلِه سليم النوايا، رفيع المقام.
***
قِيل في غير مُناسبةٍ إن الدُستورَ مُقدَّسٌ، ثم قيل أبدًا؛ فلم ينزل مِن السماء، ولا هبط علينا وحيًا وإلهامًا. نشبت معركةٌ وتشعَّبت، وتناحر طرفاها على جثةٍ لا نبض فيها ولا حياة؛ فلا أكثر مِن القواعد الراسخة التي يتم التلاعبُ بها، ولا أوفر مِن المبادئ الكبرى التي يجري العبثُ بهيبتها وخرقها. ثمة نصوصٌ لا تصون ولا تُغني عن السؤال في ظل تردي الأحوال، والحقُّ أن وجودَها الرمزيّ يحتمل القولين أيهما أنسب؛ فهي لوحٌ محفوظ ما دامت تُعزّز وضعَ السُلطان، ومَحضُ كلمات مَنثورة ما لم تفعل.
***
عُرِضَت مسرحيةُ "دستور يا أسيادنا" في مُنتصف التسعينيات؛ فقدَّمت للمشاهدين مواطنًا بسيطًا، رَشَّحَ نفسَه لمنصب رئيس الجمهورية مُستندًا إلى حقّه الدستوريّ. أُوقِفَت المسرحيةُ التي أخرجها جلال الشرقاوي بأمر المسئولين، رغم ما تضمَّنت آنذاك مِن مديح في شخص الرئيس، ثم أُخضِعَ الحوارُ لبعض التعديلات في سبيل عودتها إلى الخشبة، وقد واجه المُواطن متاعب عدة بناءً على قراره؛ فلا حمَته مواد الدستور، ولا شفعت له الحقوقُ السياسية المكفولة للمواطنين.
***
لكُل إنسان دُستوره الخاص؛ يختاره ويضع بنودَه وأركانَه، يلتزم بها أو لا يلتزم، يسير عليها سيرًا حنيفًا أو يخرقها ما عَنَّ له خرقُها، يهدمها هدمًا أو يُعيد تشكيلَها. الدُستور الفرديّ خاصٌ بصاحبه، ليس لأحدٍ أن يتدخَّل فيه، ولا أن يعدلَه. احتل شعار "القرآن دستورنا" موقعًا فريدًا على الساحة لعقود طوال، ترفعه جموع بعينها، وتجعله حدًا فاصلا بينها وبين معارضيها، وقد توارت الجموع تدريجيًا. شكَّلَ الكتابُ الأحمر بدوره دُستورًا للماويين؛ يحفظون ما جاء فيه حرفًا، ويتبعونه بإيمان مُتناهٍ، ويطبّقون تعاليمه في تفان. ذهب ماو وبقي الكتاب حيًّا، شاهدًا على حقبة يراها البعض ذهبية، فيما هي مُرعِبة في نظر آخرين، وإذا كانت الدساتير والمَناهج ألوان، فقد ظهر الكتاب الأخضر كذلك في منتصف السبعينيات؛ دستورًا منقوشًا بين دفتين، لكنه لم يَحظْ بمكانةِ سلفِه الرفيعة عبر التاريخ، ولا نال القدرَ الوافِرَ مِن الأهمية والتبجيل، كان درَّةً عند واضعه، وعند قسم مِن الناس مَثارَ سُخريةٍ مريرةٍ وتنكيت.
***
على كل حال؛ إذا صيغت نصوصٌ مُحكَمةُ الأسلوبِ، نبيلةُ المَقاصِد، تلتزم مبادئَ العدالة وتَحفظ أُسُس الحرية؛ بحث الناسُ عن فلان الذي أنتجها وعرفوه بها، وإذا صيغ غثاءٌ؛ رُدَّ مُحتواهُ إلى صاحبه مهما كانت مكانته، وقديمًا وُلِدَت الحِكمةُ الصادقةُ مِن قَلبِ الشدّة؛ لا يُعرَف الحقُّ بالرجال، إنما يُعرف الرجالُ بالحقّ.
بين عشيةٍ وضُحاها قد تُنقَش الكلماتُ، وتُطبَع الصفحاتُ، وتَغمُر أرجاءَ المَعمورةِ المَنشوراتُ؛ فلا يبقى منها في نهاية المطاف، إلا ما يستجيب لنبض القاعدة العريضة مِن الناس.