تعانى أوروبا من التباس شديد، وهى ظاهرة ليست جديدة، ناتجة عن ضعف قدرتها على بلورة سياسة خارجية موحدة. فى الجولة الأولى من أزمة كورونا رأينا دولا أوروبية تعانى من امتعاض نتيجة عدم مساندة أشقائها الأوروبيين لها مثل إيطاليا. وعندما اندلعت منذ أشهر حرب غزة، وجدنا الدول الأوروبية عاجزة عن فعل أى شىء باستثناء البيانات العامة التى تدعو إلى التهدئة، أو مسك العصى من المنتصف، وبعض الدول جاهرت بموقفها المساند لإسرائيل، وهو ما عارضته دول أخرى تبحث عن مواقف متوازنة.
وجاءت حرب أوكرانيا لكى تجعل أوروبا فى موقف شديد الالتباس. دعنا فى البداية نعترف أن حسابات فلاديمير بوتن كانت خاطئة، حيث كشف تقرير من «أفريكان أنتلجنس» أن الرئيس الروسى قدمت له تقديرات من أجهزة الاستخبارات لم تكن دقيقة من بينها أن إيطاليا والمجر قد تقفان على الحياد، وأن المانيا قد لا تتخذ موقفا حادا فى مواجهة روسيا، وقد ثبت أن هذه التقديرات كانت خاطئة، ورأينا أوروبا تبدو موحدة إلى حد بعيد فى مواجهة الغزو الروسى لأوكرانيا، وهى لحظة غير متكررة للقارة العتيقة، التى أضعفتها بشدة سياسات الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، ويضع قادتها أيديهم على قلوبهم خشية انقلاب الموازين فى الانتخابات الأمريكية عام 2024، ويعود ترامب مرة أخرى إلى البيت الأبيض.
ولكن أوروبا التى تبدو موحدة فى المواجهة مع روسيا تعانى من التباس شديد، وقد تظهر تباينات فى مواقف دولها تجاه ما يحدث، خاصة إذا طال أمد الحرب، واشتدت الضغوط الاقتصادية. هناك دول قد تتجه إلى سداد فاتورة شرائها للمواد البترولية والغاز الروسى بالروبل، خاصة من جانب أوروبا الشرقية، ولاسيما أن البديل ليس جاهزا أو كافيا بدرجة كبيرة. وهناك دول أخرى قد ترى فى أزمة اللاجئين الأوروبيين مأساة، لا تود أن تتحمل أعباءها القارة المنهكة بسبب وباء كورونا. ودول أخرى بدأت تقرأ نتائج الحرب، وتبحث عن موقعها بعد ذلك مثل المانيا التى تريد إنفاقا أكثر على التسليح، ودول مثل فنلندا تبحث عن عضوية حلف شمال الأطلنطى (الناتو)، حتى فى مسألة طرد الدبلوماسيين الروس تبدو هناك اختلافات فى مواقف الدول الأوروبية، الذين يبحثون عن مصالحهم الحالية أو المستقبلة مع الدب الروسى.
وبعيدا عن حسابات السياسة البرجماتية، يبدو المثقفون والمفكرون فى أوروبا فى حيرة من أمرهم يفكرون فى مستقبل القارة، ترتيبات الأمن والحدود لها، وينشغلون بالأسس الفلسفية لمفهوم الحرية والأمن فى أوروبا، يستعيدون كتابات قديمة، وأحاديث الساسة الكلاسيكيين، حول مفهوم أوروبا، والحريات، والحقوق، وهى المفاهيم التى تجذرت فى الثقافة الأوروبية، ودفع الأوروبيون على مدى تاريخ طويل ثمنا باهظا للحفاظ عليها.
لم يخطئ الأمير ويليامز عندما تعجب من عودة الحرب إلى أوروبا، بعد أن كان يتصور أنها تحدث فى أفريقيا وآسيا. زلزال مثل هذا لابد أن يظل حاضرا فى المخيلة الأوروبية التى تبحث عن التحليل، وقراءة الواقع، واستدعاء التاريخ.