للعبة التصعيد المحسوب التى تمارسها إسرائيل وإيران فى الشرق الأوسط محددات داخلية وإقليمية ودولية يتعين مناقشتها أولا قبل الاندفاع إما إلى توقع قرب خروج «اللعبة» عن المسارات المرسومة لها سلفا وإغراقها للمنطقة فى صراع مفتوح بين الدولة العبرية والجمهورية الإسلامية أو إلى الجزم بغياب احتمالية التصعيد غير المحدود والمبالغة فى تقدير دقة حسابات وسياسات الطرفين.
فإسرائيل التى تواصل حكومتها الحرب فى غزة وترفض وقف إطلاق النار وتصر على الاجتياح البرى لرفح وتخاطر بجعل القطاع فضاء مجاعات وأوبئة ومعاناة غير مسبوقة لملايين الفلسطينيين وتحصل على الرغم من ذلك ودون انقطاع على الدعم العسكرى والمالى من الولايات المتحدة الأمريكية وكبار أوروبا، إسرائيل تهاجم ومنذ سنوات مواقع النفوذ الإيرانى فى الشرق الأوسط وتنفذ عمليات عسكرية متكررة ضد وجود حزب الله فى لبنان وسوريا وتضيف منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ إلى قائمة حلفاء الجمهورية الإسلامية المستهدفين منها ميليشيات الحشد الشعبى العراقية وجماعة الحوثى فى اليمن.
إسرائيل، وهى نفذت خلال السنوات الماضية أكثر من عملية استخباراتية فى الداخل الإيرانى ضد المنشآت النووية ولم تكف وهى الدولة الوحيدة فى الشرق الأوسط التى تمتلك سلاحا نوويا عن مطالبة الولايات المتحدة بوضع حد عسكرى لطموحات إيران النووية، تربط بين استعادة أمنها الذى عصفت به هجمات حماس وبين تقليم أظافر الجمهورية الإسلامية وحلفائها فى الشرق الأوسط والحيلولة دون إطلاقهم للصواريخ والمسيرات باتجاهها ودون عودتهم لإمداد الفصائل الفلسطينية بالسلاح والتكنولوجيات العسكرية.
ويعنى ذلك أن إسرائيل، وحكومتها اليمينية الحالية تعرف هويتها كحكومة استعادة الأمن والسيطرة الشاملة على الأراضى الفلسطينية والقضاء على التهديدات الإقليمية، كانت ستواصل عملياتها العسكرية ضد إيران وحلفائها فى الشرق الأوسط بغض النظر عن مسيرات وصواريخ الأحد الماضى التى لم تحدث الكثير من الأضرار المباشرة. وحكومة بنيامين نتنياهو لا يعدمها هنا، ووفقا لاستطلاعات الرأى العام الأخيرة، التأييد الشعبى من كافة أطياف المجتمع الإسرائيلى مثلما لا ينقصها الدعم الأمريكى والأوروبى إن الصريح أو المبطن شريطة ألا تتجاوز العمليات العسكرية لتل أبيب ضد طهران حسابات التصعيد المحسوب وترتب حربا إقليمية مفتوحة.
• • •
غير أن مسيرات وصواريخ الأحد الماضى تفرض على حسابات حكومة نتنياهو عاملا إضافيا يحمل العديد من المخاطر الاستراتيجية والعملياتية. فطهران بمحاولتها الهجوم المباشر على الدولة العبرية تجاوزت ممارسات السنوات الماضية والتى عولت بها على حلفائها فى الإقليم للرد على تل أبيب، وأظهرت امتلاكها للإرادة السياسية ولشىء من القدرة العسكرية والعملياتية على الرد دون الحلفاء ودون توظيف ساحاتهم فى لبنان وسوريا والعراق وفى اليمن. إزاء ذلك التغيير الاستراتيجى فى الصراع بين طهران وتل أبيب والذى جاء علانية وتابعه الإقليم والعالم الأحد الماضى، ستنزع إسرائيل على الأرجح إلى الرد بعمل عسكرى علنى (وليس سريا) ضد الداخل الإيرانى بهدف إظهار التفوق واستعادة ما تراه حكومة نتنياهو ردعا ضروريا ضد الجمهورية الإسلامية. وهنا تحديدا تكمن مخاطر اللحظة الراهنة التى قد تخرج الطرفين فى سياق سلسلة أفعال وردود أفعال متتالية بعيدا عن لعبة التصعيد المحسوب، وقد تفقد معها القوى الإقليمية والدولية المتخوفة من تصعيد غير محدود القدرة على التأثير فى أوضاع الشرق الأوسط ومنع الحرب المفتوحة.
• • •
أما إيران، والعمليات العسكرية المتتالية لإسرائيل ضد مواقع نفوذها ومصالحها وضد حلفائها الإقليميين فرضت عليها ضغوطا كثيرة ثم وضعها تدمير قنصليتها فى دمشق وقتل بعض قيادات الحرس الثورى فى خانة حتمية الرد المباشر، لم تتخل إلى اليوم عن هدفها الاستراتيجى العريض وهو مناوئة إسرائيل فى الشرق الأوسط دون التورط فى صراع مفتوح أو حرب شاملة. فصناع القرار فى طهران يدركون أن حربا شاملة ستهدد فى الداخل الإيرانى ليس فقط المنشآت النووية، بل أيضا استقرار نظام الجمهورية الإسلامية الذى يواجه صعوبات اقتصادية واجتماعية وسياسية جمة. يدركون أيضا أن صراعا مفتوحا قد يرتب تدميرا كاملا للقدرات العسكرية والعملياتية لحليفها الأهم، حزب الله فى لبنان، وأن الولايات المتحدة وكبار القارة الأوروبية لن يتخلوا عن دعم وحماية إسرائيل مثلما فعلوا ليلة الأحد الماضى بالتنسيق مع جيش تل أبيب لإسقاط مسيرات وصواريخ إيران. أخيرا، يدرك صناع القرار فى طهران أن انفتاحهم خلال الفترة الماضية على بعض القوى العربية والشرق أوسطية المؤثرة كالسعودية وتركيا وغياب التوتر عن علاقاتهم مع مصر قد يذهب أدراج الرياح حال التصعيد غير المحسوب مع إسرائيل وتداعياته الخطيرة على ما تبقى من الأمن الإقليمى.
غير أن نظام الجمهورية الإسلامية لم يكن بإمكانه تجاهل العمليات العسكرية المتتالية لإسرائيل أو التعويل الأحادى على رد حلفائه نيابة عنه لأن هيبته لدى القطاعات الشعبية داخل إيران وفى البلدان العربية التى ينشط بها حلفاؤه وفى عموم المنطقة، القطاعات الشعبية المتعاطفة مع مقولات المقاومة والمعادية للدولة العبرية وللغرب الداعم لها كانت معرضة للضياع. فقد كان الهجوم على القنصلية الإيرانية فى دمشق، عاصمة الحليف الإقليمى الأهم لطهران ومكان تواجد نوعى مؤثر للحرس الثورى وقريب من الوكلاء الإقليميين الآخرين، أمرا يستحيل على صناع القرار الإيرانيين عدم الرد المباشر عليه.
وبإدخال الرد المباشر كعامل ردع جديد إزاء إسرائيل، كان صناع القرار فى إيران يفكرون فى سبل تحسين صورتهم فى الإقليم بعد غياب دور طهران منذ نشبت حرب غزة ولم يتم تفغيل مبدأ وحدة ساحات المقاومة لحماية الشعب الفلسطينى بعد أن ورطته حماس فى السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ واختفت شعارات تدمير إسرائيل. وكانت الحسابات الإيرانية، فى بحثها عن صيغة للرد المنضبط والتصعيد المحسوب على إسرائيل، تسعى أيضا إلى تجنب التورط فى رد مباشر ضد تل أبيب يستدعى تأييد واشنطن والعواصم الأوروبية لتصعيد عسكرى واسع النطاق من قبل إسرائيل فى أعقاب الرد الإيرانى، وكذلك إلى الظهور فى أعين الجنوب العالمى بمظهر الدولة المعتدى عليها بعد الهجوم على قنصليتها فى دمشق والتى تعمل حقها فى الدفاع الشرعى عن النفس دون التورط فى حرب مفتوحة.
• • •
على الرغم من حسابات طهران الدقيقة قبل إطلاقها لمسيرات وصواريخ الأحد الماضى وتقديرها الواقعى لما تقدر عليه ولما لا تستطيعه اليوم بموازين القوة الحاضرة بينها وبين إسرائيل وبحقائق الأوضاع الإقليمية والدولية، إلا أنها قد تواجه برد عسكرى من تل أبيب يدفعها مجددا باتجاه متوالية التصعيد والتصعيد المضاد ويفقدها فرص كبح جماح عدوانية حكومة بنيامين نتنياهو التى ترى فى تقليم أظافر إيران وحلفائها هدفا أمنيا أساسيا لبلادهم. وعندها ستتراجع فعالية المطالبة الأمريكية والأوروبية للإسرائيليين بالرد المحدود على ليلة الأحد الماضى والمناشدات الإقليمية للطرفين بتجنيب المنطقة المزيد من التوتر.