فى عزبة تابعة لأحد المراكز بمحافظة مِن محافظات وجه بحرى، اشتعل حريقٌ وتصاعد الصراخُ والعويلُ مِن أصحاب البيت. احترقت ملابسهم ومراتب النوم والأغطية، لكن أحدًا منهم لم يصب بشَرٍّ، ومع تكرار الواقعة صاروا يبيتون فى العراء استعدادًا للحريق القادم.
قال أهالى العزبة إن النيران انطفأت بعد الاشتعال مِن تلقاء نفسها، أو للدقّة إنها انطفأت مع تعالى أصواتهم بالتكبيرات فى مواجهتها، وقد عنى هذا بالنسبة إليهم أن السبب هو وجود «جنّ». تواترت القصصُ والحكايات، وتعددت الأقاويل، وانتشرت الشائعات، حتى أرجع الناسُ الحريق إلى رغبة عفريت مِن عفاريت الجن فى الانتقام مِن أهل فتاة، أخرجوه مِن جسدها عنوة وزوجوها بغيره.
وقع الحريق بنهاية الشهر الماضى؛ نيسان، أى شهر مِن أشهُر الربيع، بل أكثرها تقلُّبًا، ولا يخفى أن بداية الربيع مِن كل عام تحمل إلينا مجموعة مُشابهة مِن الحكايات، تكاد تكون تقليدًا سنويًا مُتعَارف عليه. تشتعل الحرائقُ فى بعض البيوت والعشش وتنتقل من مكان إلى مكان. يطفئها الأهالى فتشتعل مرة جديدة بفعل الطقس غير المستقرّ؛ الرياح الشديدة التى تصل إلى حد العواصف والسخونة والهبو والجفاف. وبفعل نمط الحياة وظروف البيئة المحيطة، وغياب الاستعداد الكافى للتعامُل مع الأمر، بل وغياب خطة مُسبقة للوقاية وتجنُّب الأضرار قبل وقوعها، فإن الظاهرة تتواصل لفترة، تصبح كافية كى يبحث الناس لها عن أسباب خارجة عن إرادتهم، وبفِعل الثقافة المتوطّنة والموروثات المستقرة المتجذِّرة، يعزو الضحايا الأمر إلى قوى خارقة أو فلنقل إنها تقع فيما وراء الطبيعة: الجنّ والعفاريت.
***
لا يقف الأمر عند خيبة التعامل الرسميّ مع ظاهرة طبيعية مفهومة، ولا عند لجوء الناسِ إلى ميراثهم الشعبيّ الممزوج بأساطير وبنصوص مُستمَدّة من الدين لصناعة حكايتهم وأساطيرهم الخاصة، بل يمتد إلى آخرين؛ فى جعبتهم من العلم والمعرفة ما يُفتَرَض أن يقيهم شرّ السقوط فى براثن التلفيق، وأن يعصمهم من اللجوء إلى الغيبيات فى التعامل مع واقع علميّ بسيط.
فى الشهر الماضى، زار مشايخ وزارة الأوقاف قرية من قرى الحرائق، قصدوا الأماكن المتضررة فى وفدٍ رسميّ، لم يكن الهدف مواساة الناس فى مُصابهم ولا شد أزرهم والتضافُر معهم وحثّ الأجهزة الحكومية على اتخاذ احتياطاتها والقيام بواجباتها اتجاههم، أبدًا، لا هذا ولا ذاك، فقد طلب الوفد من أهالى القرية الإكثار من الاستغفار. ذكر واحدٌ من الأهالى أن عديد الشيوخ ورجال الأوقاف حثّوا الناس على التوبة وطلب المغفرة مِن الذنوب كى يبعد الله عنهم الأذى، بينما رفض آخر أن يتحدث مع الصحفيين الذين ذهبوا لاستطلاع الأمر، مُحذرًا مَن يفعل، مُنبهًا إلى أن الشيوخ طلبوا من الأهالى السكوت كى لا يغضبوا الجنّ!
نشرت الصحف أخبار الزيارة والحلول المطروحة مِن قبل المشايخ، الذين ظهروا بمظهر مَن لا يعرف ولا يعترف بالعلم أو حتى بقوى الطبيعة. ما فى جعبتهم ودواخل عقولهم أن سبب اشتعال النيران هو سبب دينيّ بحت، لا يستلزم البحث والدراسة العلمية، بل يستدعى تدخلهم بالأدعية والأذكار، ولقد تداولت الصحف فى هذا السياق أن وكيل وزارة الأوقاف نفسه، صرح بإرسال مجموعة من «علماء» الأوقاف إلى إحدى القرى المنكوبة، للصلاة بأهلها، ونُصحهم فى أمور دينهم، والدعاء معهم بتفريج الكرب، محبذًا فكرة: «الرجوع إلى الله ليعف عنهم».
***
لا شك أن إرجاع الكوارث والإخفاقات إلى علّة فى النفسِ مَسلَكٌ قديمٌ جدًا، يستغله أصحاب السُلطة فى إبعاد المُساءلة عن أنفسهم وإلقاء اللوم على الناس، بل وجعل مصائبهم عقابًا من الربّ الذى لا يمكن الاعتراض على مشيئته. بدلا من اتخاذ الإجراءات اللازمة ومكافحة أوجه التقصير، ينتظم الناس فى صفوف للصلاة وطلب الغوث، ويجلس المسئول فى حجرة فاخرة مترعة بأطايب ما يشتهى. ينتهى مَوسِم الربيع وتخفت الحرائق وتنتهى، فلا يُعاقَب مُهمِلٌ ولا يُحاسَب أحدٌ، ويرضى الناس بواقعهم وبزوال الغمة، إلى أن يهلّ الربيع من جديد.
***
إن كان لتجديد الخطاب الدينى من معنى، فأجدر ما يكون به الكفّ عن تبرير أخطاء المسئولين واحترام العقول، والامتناع عن تسويق أسباب غيبية للفشل وعن ترويج أفكار لا طائل من ورائها إلا مزيد من التأخر والنكوص.