تحاصر الصراعات والأزمات الكثيرة بلاد العرب اليوم، وذلك ليس بجديد علينا. غير أن التغيرات العميقة التى تتعرض لها حاليا منظومة العلاقات الدولية وصعود أدوار قوى عظمى فى مقابل تراجع قوى أخرى، وكذلك التحولات التى طرأت على قراءة بعض الحكومات والقوى الشعبية العربية لأوضاع منطقتنا والعالم، تصنع معا فرصا لحل بعض الصراعات والخروج من بعض الأزمات. وهذا هو الجديد المحيط بنا والذى تظهره بجلاء وضعية القضية الأشد استعصاء على الحل، فلسطين.
• • •
فى فلسطين، لا جديد فى سياسات وممارسات حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية التى هى خليط من التمييز العنصرى والتهجير والاحتلال الاستيطانى والحصار غير الإنسانى والاعتداءات المتكررة، أبارتايد متكامل باختصار.
قانونيا وسياسيا، تميز حكومة بنيامين نتنياهو ضد فلسطينيات وفلسطينيى ١٩٤٨ الحاملين لجنسية الدولة العبرية. فى القدس الشرقية والضفة الغربية، يتواصل اضطهاد الشعب الفلسطينى تهجيرا متصاعدا، واستيطانا مستمرا، وعنفا من قبل المستوطنين المسلحين (هوارة نموذجا)، وقيودا على حركة الناس، وإهانات ممنهجة للمعتقدات الدينية (الاقتحام المتكرر للمسجد الأقصى)، وضغوطا مالية وأمنية على السلطة الفلسطينية. أما غزة، فيتعامل معها نتنياهو وحلفاؤه الأشد تطرفا كفناء خلفى مستباح، إنسانيا بحصار خلق أوضاعا معيشية مأساوية وعسكريا باعتداءات متكررة تفرضها فى كثير من الأحيان الصراعات السياسية داخل إسرائيل.
غير أن الجديد فى شأن فلسطين هو، من جهة، التلاحم المتزايد على أرضية الهوية الوطنية المشتركة بين فلسطينيى ١٩٤٨ وفلسطينيى الأراضى المحتلة منذ ١٩٦٧ فى القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة. وقد عبر هذا التلاحم عن نفسه من خلال ممارسات تضامنية كثيرة تجاوزت الخطوط الفاصلة بين ١٩٤٨ و١٩٦٧ وأعادت التأكيد على أن إنهاء الأبارتايد الإسرائيلى وانتزاع حق تقرير المصير يظل هو القضية المركزية للشعب الفلسطينى دون تمييز بين من هم فى «الداخل» ومن هم فى «الأراضى المحتلة».
الجديد، من جهة ثانية، هو أن إسرائيل تمر بأزمة وجودية حادة جوهرها هو التنازع حول العلاقة بين يهودية الدولة وبين الطبيعة الديمقراطية لمؤسساتها الدستورية والقانونية والسياسية وتلك الفاعلة فى مجال الهوية والتنشئة الاجتماعية. وبينما يشغل اليمين المتطرف بأطيافه المختلفة مواقع الانتصار ليهودية الدولة على حساب مكوناتها الديمقراطية (القضاء المستقل مثالا)، تقف القوى العلمانية والحداثية فى خانات الدفاع عن الحقوق والحريات بمضامينها الليبرالية وترفض «تهويد» مؤسسات الدولة والحياة السياسية والفضاء العام.
وفى هذا السياق، يعيد التيار التقدمى فى إسرائيل اكتشاف التناقضات الجوهرية بين يهودية الدولة وبين ديمقراطية مؤسساتها والنواقص العديدة التى ترد على الأخيرة طالما تواصلت سياسات وممارسات الأبارتايد تجاه الشعب الفلسطينى. وعلى الرغم من أن التظاهرات الحاشدة التى شهدتها المدن الكبرى كتل أبيب وحيفا وغيرهما خلال الأسابيع الماضية احتجاجا على «الإصلاح القضائى» الذى أرادت به حكومة نتنياهو «القضاء على استقلال القضاء» لم تحمل بها يافطات تطالب بإنهاء الاستيطان والاحتلال ولم تخرج عنها مقولات علنية تربط بين الدفاع عن الديمقراطية فى إسرائيل وبين تقرير الشعب الفلسطينى لمصيره، إلا أن ثمة شواهد متواترة على إدراك القوى العلمانية والحداثية لحتمية الربط بين الأمرين ولاستحالة تجزئة الحقوق والحريات فى الساحات بالغة التداخل والتعقد فى إسرائيل وفلسطين.
الجديد، من جهة ثالثة، هو أن النظرة العالمية لفلسطين تتغير جذريا على نحو يقر بكون سياسات وممارسات حكومات إسرائيل المتعاقبة تمثل أبارتايد متكاملا يندى لاضطهاده وتمييزه العنصرى ولتهجيره واستيطانه واعتداءاته جبين الإنسانية، ويطالب بخطوات دولية، حكومية وشعبية، حقيقية لكى توضع له نهاية قريبة.
• • •
فى الولايات المتحدة الأمريكية، لم يعد مستهجنا فى بعض الدوائر السياسية (يسار الحزب الديمقراطى) والإعلامية (وسائل الإعلام القريبة من اليسار) والأكاديمية (عديد الجامعات والمراكز البحثية) أن يوصف ما يعانى منه الشعب الفلسطينى بالفصل العنصرى، وأن تعقد مقارنات بين السياسات والممارسات الحالية فى القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة وبين ماضى جنوب إفريقيا قبل ١٩٩٠. أمريكيا أيضا، يتراجع تدريجيا خوف بعض رموز الحياة العامة من التعبير عن مواقف ناقدة لحكومات إسرائيل ومتضامنة مع حقوق الشعب الفلسطينى لكيلا يطالهم هجوم أنصار الاستيطان والاحتلال الموظف دوما لمقولات العداء للسامية. وقد دللت تصريحات متتالية لسياسيين وإعلاميين وأكاديميين أمريكيين (خاصة حين جاءت من أصحاب البشرة البيضاء والأسماء الأنجلو ــ ساكسونية وفى بعض الحالات الانتماء الدينى اليهودى) على الانهيار التدريجى لأسوار الخوف من الاقتراب من انتقاد إسرائيل والمطالبة بمحاسبتها على الانتهاكات المتكررة لحقوق الشعب الفلسطينى ومقاطعتها أكاديميا والدعوة إلى إنهاء الأبارتايد الوحيد فى عالمنا المعاصر.
بالقطع، لا يمر ذلك دون مقاومة سياسية وإعلامية وأكاديمية لا تعدم لا المؤيدين لأسباب متفاوتة (ينتمى أغلبهم إلى اليمين الأمريكى) ولا الأموال (تدفع بها جماعات الضغط والمصالح الكثيرة القريبة من إسرائيل). غير أن التغير الجذرى الذى يطرأ على النظرة لفلسطين فى الولايات المتحدة يستحيل إنكاره مثلما يستحيل تجاهل تداعياته السياسية التدريجية.
والحقيقة أن ما يرى فى الولايات المتحدة يحدث أيضا فى بعض الدول الأوروبية الغربية التى صارت بها أحزاب اليسار ومنظمات المجتمع المدنى التقدمية توصف سياسات وممارسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطينى باستخدام مفردات الفصل والتمييز العنصرى والاضطهاد والعنف وغيرها وتضغط على حكوماتها لإعادة النظر فى مواقفها المنحازة (تمثل ألمانيا لظروفها التاريخية الخاصة الاستثناء الأبرز فى هذا الصدد). والحقيقة أيضا أن حكومات قوى دولية أخرى، كالصين التى اتخذت موقفا مناصرا للقضية الفلسطينية منذ النصف الثانى من القرن العشرين ويتسع اليوم دورها الدولى وبتصاعد نفوذها السياسى والدبلوماسى مع تطورها الاقتصادى والتكنولوجى المذهلين وروسيا التى تعيد راهنا اكتشاف أهمية بلاد العرب التى اتخذت موقفا محايدا بشأن الصراع الروسى ــ الأوكرانى ورفضت المشاركة فى العقوبات الغربية، أصبحت تتجه إلى الاهتمام الجاد بالبحث عن سبل لحل الصراع الأقدم فى الشرق الأوسط وفقا لقرارات الشرعية الدولية أى بالضغط لتطبيق حل الدولتين.
• • •
هذا الجديد، إن بالتضامن الفلسطينى العابر لحدود ١٩٤٨ و١٩٦٧ إزاء الأبارتايد الإسرائيلى أو بالصراع الوجودى حول يهودية دولة إسرائيل فى مقابل ديمقراطيتها أو بتغير النظرة العالمية وعودة حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى إلى الواجهة، يعطينا كعرب، حكومات ومجتمعات مدنية وقوى شعبية وبغض النظر عن التفاوت بين من لهم علاقات مع إسرائيل ومن ليس لهم ودون إدانة لهذا الموقف أو ذاك، فرصة مواتية للغاية للضغط من أجل تفعيل حل الدولتين قبل أن تتجاوزه بالكامل وقائع التهجير والاستيطان.
أستاذ علوم سياسية، بجامعة ستانفورد