هناك نقاش مكتوم دائر فى الأوساط القبطية حول الآخذ ــ قانونا ــ بنظام الكوتا لضمان تمثيل معقول للمرأة المصرية فى مجلس الشعب، فى حين لم يفكر أحد فى ابتكار آليات جديدة لرفع مستوى تمثيل الأقباط، الذى يعانى من تراجع ملفت، بحيث بات «تعيين» رئيس الجمهورية لعدد منهم هو السبيل الوحيد لضمان الحضور القبطى فى المؤسسة التشريعية.
المسألة شائكة، ومعقدة، وتحتاج إلى قدر من التدبر.
(1)
نُسب تصريح صحفى إلى الدكتور محمد كمال، أمين التثقيف فى الحزب الوطنى، أن فكرة «الكوتا» غير مطروحة بالنسبة للأقباط، لأن المجتمع لا يعرف التفرقة بين المسلمين والمسيحيين. التصريح على هذا النحو غير مكتمل، فإذا كانت «الكوتا» غير ملائمة لتمثيل الأقباط ــ وهو رأى صائب من وجهة نظرى ــ فما هو النظام الأمثل لضمان وجود أقباط فى مجلس الشعب بالانتخاب وليس بالتعيين؟
فى حدود علمى لم يجتهد أحد فى التفكير فى هذه المسألة، باستثناء بعض السياسيين، الذين يطرحون القضية من باب التحسر على تراجع مساحة التسامح فى المجتمع، أكثر ما يطرحونها من باب البحث عن حلول لمشكلة مزمنة، تسئ إلى المجتمع المصرى بتاريخه الطويل فى التعايش، والاندماج بين مختلف مكوناته.
فى العهد الليبرالى (1923ــ1952) لم تكن مسألة انتخاب قبطى تثير حساسيات، بل كان قبطيا ينجح فى دائرة معظم ناخبيها من المسلمين، رغم أن آثار الطائفية لم تبرح الجسد السياسى فى ذلك الحين. ظهرت هذه الحساسية فى أعقاب ثورة يوليو 1952، مع اختفاء حزب الوفد، الوعاء السياسى للأقباط فى الحقبة الليبرالية، ولم تستطع مؤسسات النظام الناصرى، رغم هيمنتها وتغلغلها فى ثنايا المجتمع ضمان انتخاب الأقباط فى المجلس النيابى.
فلجأت أولا إلى الحل السهل، وهو إغلاق دوائر على الأقباط، وعندما لم تنجح التجربة، اعتمدت على الحل الأسهل، وهو إعطاء رئيس الجمهورية رخصة تعيين عدد من الشخصيات العامة، جرى العرف على أن يكونوا من الأقباط والنساء. وفى أحيان كثيرة يجرى البحث عمن يحل المعضلتين معا، أى تعيين امرأة قبطية. وهو ما دعا البعض إلى التندر أحيانا بالقول «مرحبا بنساء الأقباط» إذا لم يكن لدى رجالهم فرص النجاح فى الانتخابات.
ومن المعروف أن النائب فى البرلمان يستمد مشروعيته، وثقله، ومكانته من جمهور الناخبين أولا ثم نشاطه التشريعى والرقابى ثانيا. أما فى حالة تعيين نواب فى البرلمان فإن الولاء عادة ما يكون إلى السلطة التنفيذية التى تمتلك قرار التعيين. من هنا لم يكن مستغربا أن يصدر عن إحدى النائبات القبطيات فى مجلس الشعب الحالى، وهى بالمناسبة سيدة كفء، تصريح صحفى مفاده أنها تتمنى أن يكون دورها على مستوى توقع السيد رئيس الجمهورية، الذى قام بتعيينها فى هذا الموقع.
لم تخطئ السيدة القول، فإن استمرارها فى موقعها هو رهن التقييم الرئاسى لدورها، وليس بالعودة إلى جمهور الناخبين كما تقضى قواعد الديمقراطية البرلمانية. ومنذ عدة أشهر عندما حاولت النائبة ابتسام حبيب، وهى سيدة قبطية معينة فى المجلس أداء دورها فى اقتراح مشروع قانون لتقنين الزواج العرفى، فكان نصيبها تقريعا من نائب ينتمى إلى الحزب الوطنى واصفا إياها بالنائبة المسيحية.. ولم نسمع أنه جرت مساءلة هذا النائب، سوى بعض الأحاديث الجانبية هنا وهناك.
(2)
نظام الكوتا لتمثيل الأقباط هو نظام تعيين مقنع، لا يسمح لهم بالحضور الطبيعى فى المؤسسة التشريعية. من هنا فإن هذا النظام ليس ملائما للأقباط، ويسهم فى مزيد من عزلتهم، ويعمق شعورهم بالوعى «الأقلوى» إذا صح التعبير. ولكن التحفظ على نظام «الكوتا» لا يعنى أنه لا توجد مشكلة، أو أن الأقباط راضون بحالهم. العكس هو الصحيح. فقد كان من الأجدى أن يكون رفض نظام «الكوتا» فى تمثيل الأقباط، ليس اليوم، ولكن منذ أكثر من ثمانين عاما عند وضع دستور 1923، هو مدعاة لاحترام رغبتهم فى الاندماج الوطنى، وتشجيعهم على الانضمام إلى المؤسسة التشريعية نوابا منتخبين يخدمون وطنهم حسب موقعهم السياسى. ما حدث هو العكس، فقد أدى رفض الأقباط لنظام «الكوتا» إلى مزيد من التهميش لهم. وأكثر من هذا، لم يعد خافيا أن الحزب الوطنى، كما ورد فى تصريح على لسان السيد كمال الشاذلى فى التسعينيات، لا يقوم بترشيح الأقباط لأنهم لا يتمكنون من النجاح. وفى الانتخابات البرلمانية أعوام 1995، 2000، 2005 خاض عدد لا بأس به من الأقباط الانتخابات فى غالبية المحافظات لم ينجحوا سواء كانوا حكوميين أو معارضين أو مستقلين باستثناء الدكتور يوسف بطرس غالى، وزير المالية، ورجل الأعمال منير فخرى عبد النور، الذى لم يفز بالانتخابات فى المرة التالية رغم أدائه البرلمانى المتميز فى المرة الأولى. وإذا استمر النظام الانتخابى الفردى هو السائد، فإن إمكانية انتخاب الأقباط تتضاءل إلى حد العدم. وهكذا يظل تعيين بضعة أشخاص من الأقباط هو السبيل الوحيد لتمثيلهم. وقد انتقلت هذه الروح إلى بقية مؤسسات المجتمع، التى تُشغل عضوية مجالس إدارتها بالانتخاب مثل النقابات والأندية، بحيث بات من الصعب أن ينجح قبطى فى عضويتها، مهما كان موقعه السياسى. فى انتخابات نقابة المحامين، التى جرت منذ أيام خاض محامون أقباط الانتخابات، إما على القائمة المدعومة من الحزب الوطنى، أو على القائمة المدعومة من الإخوان المسلمين.
لم ينجح هؤلاء وأولئك. فما معنى ذلك؟ يعنى أن جمهور الناخبين يرفضهم على خلفية انتمائهم الدينى. فلو كانت القضية سياسية، لنجح إما المؤيد أو المعارض، لكن على ما يبدو فإن البعد الدينى حاضر بكثافة فى خلفية التصويت الانتخابى. والدليل على ذلك أنه مهما تبنى المرشحون الأقباط برامج سياسية، أو تناولوا شأنا عاما فإن النظرة إليهم لا تخرج عن نطاق «المرشح القبطى»، وهو ما يصعب المهمة عليهم.
(3)
الأقباط لهم كيان واحد تمثيلى يعبر عنهم هى المؤسسة الكنسية. فى العهد الليبرالى كانت هناك طبقة سياسية قبطية، وفى العهد الناصرى كانت هناك فئة تكنوقراط أقباط لهم حضور فى مؤسسات الدولة، أما اليوم فلم يعد يمثل الأقباط سوى الكنيسة. وهو قرار لم يختره الأقباط، أو فضلوه، بل كان اختيارا فى المقام الأول من الدولة بحثا عن الكيان القادر على الاستيعاب وحشد التأييد وضبط محركات السلوك الجماعى.
فى جلسة نقاش مغلقة عقدت فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى أعقاب حادثة «وفاء قسطنطين»، وما شهدته من مساجلات حادة. تحدث الأستاذ طارق البشرى عن أهمية الحضور المدنى القبطى، وهو القول الذى وجد قبولا من الحاضرين، فسألته صراحة: هل تسمع الدولة للمدنيين الأقباط؟ وهنا استدرت إلى الدكتور ميلاد حنا طارحا عليه السؤال، فجاءت إجابته بالرفض، واسترسل فى ذكريات تدعم رأيه. هذه هى الإشكالية الحقيقية.. التمثيل القبطى اليوم هو تمثيل جماعة دينية أقلوية فى الوقت الذى ينفى فيه المجتمع كل لحظة أن الأقباط أقلية.
عندما خُضت انتخابات نقابة الصحفيين أسدت لى قيادة سياسية مرموقة نصيحة بأن أسعى للحصول على دعم الكنيسة. استغربت النصيحة. فالانتخابات نقابية، والبرنامج الذى أطرحه نقابى، فما شأن المؤسسة الدينية بهذه المسألة؟.
لو كنت طلبت الدعم المشار إليه لوجدته، لكن المشهد برمته مقلق، ويعكس نظرة «طائفية» حادة، لم تكن موجودة فى المجتمع المصرى منذ قرن من الزمن. هذا هو مأزق القيادات المدنية القبطية، فلا يوجد لهم حضور فى المؤسسات السياسية، ولا أحد يفكر فى ابتداع آليات تساعدهم على الاندماج فى الشأن السياسى الوطنى العام، ولا يتعدى دورهم الوجود «الاستشارى» فى بعض اللجان، والهياكل السياسية، دون أى فعالية حقيقية.
المطلوب هو الخروج من هذه الدائرة المفرغة بحثا عن اندماج وطنى لكل مكونات المجتمع، فلا يصح اختزال التنوع فى صفوف الأقباط بحثا عن حشد جماعى، ولا يجب أن يظل الأقباط مجرد منبر للتأييد السياسى لتوجهات النظام. فإذا كان للمرأة «مجلس قومى» يدافع عن حضورها السياسى، فمن يدافع عن التنوع الدينى فى السياسة المصرية؟. أخشى أن أقول إنها صارت قضية بلا صاحب.