تزينت أخبارُ الصَّباح في الأسابيع الماضية وعلى غير عادتها، بخيوط خفيفة من التفاؤل؛ مَبعَثُها وقائع وأحداثٌ قادِمةٌ من الشَّرق والغَرب على حَدٍ سواء. انتخاباتٌ في فرنسا وأخرى في إنجلترا، وعملياتٌ متعاقبة للمُقاومة في فلسطين، ورئيسٌ جديد ينتمي لتيار الإصلاحيين في إيران. على كل حال؛ لم يكُن من بينها خبرٌ مَحليّ يمكن أن يَعدَّه المرءُ ضمن المُفرِحَات. ليس إلا حكايات عن بَغي واستغاثات.
• • •
البَاغي في قواميس اللغة العربية هو الجائرُ المُستَغلِ؛ الذي يتعدَّى على حقوقِ الغَير، والبَغْي هو الفساد والكِبْر والظُّلمُ البيِّن، وإذا تجاوَز المرءُ حدَّ العَدل والإنصافِ في مُعاملاتِه فقد بَغَى. على الجانب الآخر يُعطي الفعلُ ينبغي صِفةَ الوُجُوبِ لأمرٍ ما، فإذا قيل ينبغي عليك أن تفعلَ كذا وكيت؛ فليست لك في الأمر مساحة ُ واسعةٌ من الاختيار.
• • •
غالب الظنّ أن يلقى المرءُ حصادَ أفعالِه، فإن أوْغَلَ في الغَيّ والضَّلال وظنَّ أنه أفلتَ وأَمِنَ العقابَ، واعتقد في وجود حمايةٍ تُبعِد عنه تبِعات ما ارتكَب؛ لكان في غَفلةٍ مِن حَاله؛ إذ لا عاصِم من حَصد النتائجِ ولو بعد حين، وقد حفظنا عن ظهر قلب المأثور الشهير: "على الباغي تدور الدوائر"؛ إذ يحمل مَضمونًا حكيمًا يُقرُّ بحتمِيَّة المَصير ويُؤكِّده.
• • •
تشير كلمةُ "البغايا" في مَعاجِم اللغةِ العربيَّة إلى النساءِ اللاتي يتكسَّبن من الفُجور، وقد كانت لهن قديمًا بيوت بعينها، تحتل مناطقَ مَعروفة، وتضع لافتاتٍ صريحةً، ورُخصًا تعلن عن النشاطِ الدائر داخلها. في شارع كلوت بيه رأيت بعضَ هذه اللافتاتِ على حالها منذ أعوام خَلت، لا أعرف إن لم تزلْ في أماكنها حتى اللحظة أم قد اختفت. على كل حال لم تعد أفعالُ الدَّعارة في حاجةٍ لبيوتٍ خاصةٍ تؤويها، فقد تفشَّت في أنحاء العالم، ومارستها حكوماتٌ مُتباينة التوجُّه والانتماء؛ عملت أغلبُها على توطيد أركان الظلمِ ودَعم الطغيان.
• • •
إذا ابتغى الواحد أمرًا فالمعنى أنه رامه وأراده. الابتغاءُ مَصدر، وأشهر العباراتِ المُستخدمة في الأحاديثِ العادية، خاصة حين يأتي الواحد بصنيع لا مصلحة خافية من ورائِه هي عبارة: "ابتغاء وجه الله" أو "ابتغاء مَرضاته". المُبتَغى هو الهَدفُ؛ ولا تستوي الأهدافُ فيما بينها؛ فمنها ما هو مشروع مُحبَّذ، ومنها ما هو دنيءٌ مَنبوذ، والحَكَمُ الفاصِلُ بينها هو ضمير المرء وما انتوى.
• • •
حينما رَفضَ الحُسَين أن ينطقَ بمُبايعةِ يزيد بن معاوية، خَطب في زائريه يُدافع عن مكانةِ الكلماتِ وقيمتها وارتباطها بقيمةِ الإنسانِ ذاته، ومن أبدع ما قال: "الكلمةُ فُرقانٌ ما بين نبيّ وبَغّي"، والثابتُ على مرّ التاريخ أن مِن البُغاة مَن اعتقدوا أنهم بالفعلِ أنبياء؛ أمرهم نافذٌ وكلمتُهم حقٌ، وقد أدرك الناسُ مَبلغَ شطوطِهم؛ لكن جورَهم الذي لا يقف عند حدود، منع مُواجهتهم وألقى في القلوب الخوفَ، ورجَّح الصَّمت والقُّعود.
• • •
قد يرتكب الواحد أخطاءً كثيرةً بغية أن يصلَ إلى مُراده؛ فإن تمادى وأوغل؛ فقد مع مرور الوقت والتكرار قدرتَه على الاستبصَار، ولم يعُد قادرًا على تمييز المَقبول من المَرفوض واللائق من غير اللائق؛ خاصة وقد اختلَّت المعايير وتدنَّت وباتت في خبر كان.
• • •
أمسى الخطابُ الذي نتلقاه في مطارحنا من هنا وهناك عبثًا في عبث، يسمع الواحد حوارًا ثم تصريحًا ثم بيانًا؛ فيجد في نفسِه ميلًا لضحكٍ هو أشبه بالبكاء، وقد تفتَّق العالمُ عن زُمرةِ بُغاةٍ فاسدين، وعاجزين في الوقت ذاته عن تَسويقِ فشلِهم وإقناع تابعيهم بألمعيتهم، والحقُّ أن تردّي مستوى العَملِ السِياسيّ قد تفشَّى على الأصعِدَة كافَّة، ولم تُكتَب النجاةُ إلا للنُّدرة.
• • •
ثمَّة مُفردةٌ قريبةُ الشبَه ببَغَى؛ قد تختلف قليلًا في المعنى لكنها تأتي على الوزن ذاته؛ تلك هي طَغَى. أن يطغَى المَرءُ فالمعنى أن يَسودَ، والفاعلُ ليس عاقلًا بالضرورة؛ فقد تطغَى مشاعر الحزنِ على المَرءِ وقد يطغى موجُ البحر على الرّمال، وأحيانًا ما تطغَى المادةُ على جوانب الحياة؛ فتقضي على احتمالاتِ التفكير في غيرها وتصبح شغلًا شاغلًا للناس؛ لا في بحثهم عن رفاهةٍ مفقودة؛ بل طمعًا في سَترٍ صار بعيدَ المنال.