هابى سيتيزين - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:16 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هابى سيتيزين

نشر فى : الجمعة 19 أغسطس 2016 - 9:30 م | آخر تحديث : الجمعة 19 أغسطس 2016 - 9:30 م
أمر بالجمعية كثيرا، أتطلع إليها فى الذهاب والإياب. أدخلها أحيانا وأخرج منها فى العادة بأقل القليل. أسأل نفسى مرة بعد مرة عن سر التغييرات التى تتعرض لها، ولا أدرى على وجه الدقة متى اكتسبت اسما جديدا ذا مقطعين، ربما يعده المسئولون أكثر وجاهة.

لم أفكر فى الكتابة عنها إلا حين توغل المرض وانتشر، فقد تيقنت بعد جولة حرة غير مقصودة، أن الدولة آخذة فى تسمية متاجرها والمنشآت الحكومية التابعة لها بلغة أخرى غير لغتها الرسمية.

جرى إنشاء المجمعات الاستهلاكية فى عهد ماضٍ لتقدم لمرتاديها من أصحاب الدخول المتوسطة والضئيلة احتياجاتهم الغذائية بأثمان معقولة، وفى الآونة الأخيرة راحت تبيعهم وجبات مغلفة تحت شعار «كون وجبتك» إلى جانب تسليمهم الحصص التموينية المقررة. حلت الجمعية ــ وهو الاسم المتفق عليه سلفا ــ بالنسبة للكثيرين محل البقالة العادية التى تضاعفت أسعارها ولم تعد مزارا آمنا. انتشرت المقار ذات اللافتات الزرقاء المميزة انتشارا واسعا، افتتحت أفرعها فى الأحياء كافة؛ فقيرة، متوسطة وثرية، ولم يعد اسمها «الجمعية» كما عرفناها. صارت أكثر أناقة وأرستقراطية ودخلت عليها المفردات الأجنبية. استحالت فى السنوات الأخيرة إلى «ماركت»، أى «سوق» باللغة العربية. «فاميلى ماركت» تتوسط اللافتة بالخط السميك كبير الحجم وعلى استحياء وإلى اليسار منها وبخط رفيع لا يلحظه الرائى: «مجموعة أسواق شركة النيل للمجمعات الاستهلاكية».

مازالت الجمعية ــ الماركت ــ على حالها، تنبعث من عديد فروعها الروائح النافذة، تفتقر إلى التنظيم الجيد وإلى مهارة تنسيق وعرض محتوياتها، وكما ألفنا يتكالب الناس عليها فى الصباح الباكر ليتشاحنوا مشاحناتهم التقليدية، يتدافعون ويتصايحون على أمل اللحاق بالبضائع الواردة قبل نفادها. أرى الصفوف أمامها؛ نساء ورجالا ممسكين ببطاقات مغناطيسية تسمح لهم بالحصول على عدد من أرغفة الخبز وزجاجات الزيت وأجولة الأرز أو ما تيسر محلها من سلع. عذرا فالبطاقة صارت «كارت»، والكارت بطبيعة الأحوال الراهنة أكثر وسامة وارتقاء.

***

تبدو العربية الفصحى فى حياتنا اليومية دون المستوى الاجتماعى المطلوب، لا تحقق الإشباع الكافى لناطقها ولا تشعر مستخدمها بعلو المقام. فاميلى ماركت يمكن أن يصبح ببساطة وبغير كثير من الجهد: «سوق العائلة»، لكن السوق كلمة «بلدى» يمتعض منها قسم لا بأس به من الناس ويأنفون تداولها. «بلدى» هى فى حد ذاتها كلمة مزعجة ومسيئة؛ إذ تحمل على كاهلها تأويلات سلبية شتى تتعلق فى مجملها بالذوق المنحدر؛ يقال إن الثياب بلدى كونها عديمة التناسق متنافرة الألوان، وإن الفرح بلدى كونه لا يراعى معايير الفن والجمال رغم نسبيتها، والأفعال بلدى لأنها تفتقر إلى اللياقة اللازمة: الناس بلدى لأنهم يملأون أطباقهم حتى تفيض على الجانبين فى المحال العامة، والرجل بلدى لأنه لا يعرف القواعد المجتمعية المقبولة وينتهك الأصول المتعارف عليها، يمر من الباب متقدما امرأة أو يجلس دون دعوتها اتخاذ مكان؛ لا يفهم «البروتوكولات» ولا يتبع «الإتيكيت». كثيرنا يستخدم الوصف فى سياق توجيه النقد والإهانة بينما البلد برىء من النسب المهين.

مثل قديم سمعته فى طفولتى ولم أعد أصادفه نهائيا، ربما لأن الموقف الذى يسجله بات غريبا لا ينطبق على واقع ولا يجد انعكاسا ماديا صادقا: «البلدى يوكل». كان البلدى فى زمن ولى مهضوما ممتعا، على مستوى المذاق والجمال أيضا. الوصف يطال الطعام والشراب النابت فى أرض الوطن ويزكيه فى مواجهة مثيله المستورد، وفى تأويل أكثر مكرا يطال النساء المحليات معليا من مكانتهن أمام الأجنبيات. اختفت المناسبات التى تلائم الأمثولة؛ حقولنا تحولت إلى سموم وامتلأت مزروعاتنا بالهرمونات، بينما تحولنا نحن إلى أشباه بشر.

***

صادفت «صن مول» بعد أن ظننت الأمر مقصورا على الفاميلى ماركت. أدركت بمزيد من البؤس أن المؤسسة العسكرية نفسها تتبرأ من اللغة العربية، ففى الآونة الأخيرة خضعت بعض المتاجر الكبرى التابعة لها إلى عملية تجديد وتطوير: غدت جدرانها نظيفة وأرضيتها رخامية لامعة وتلألأت بأضواء زرقاء وبيضاء وإن احتفظت برائحتها المميزة، ويبدو أنها استحقت بهذه التغييرات لقب «صن مول» عن جدارة. المول كلمة أمريكية الأصل ربما تصعب ترجمتها حرفيا، لكن الصن الإنجليزية لا تختلف كثيرا عن الشمس العربية أو ربما اختلفت فى الفترة الأخيرة، فثمة من يعرف أكثر ويفهم أفضل ويدرك دوما ما خفى على الآخرين، لا بأس إن أحدث شروخا فى هويتنا أو أسقط ما بقى منها. يعلق بذاكرتى إلى الآن قرار مقاطعة كيبيك الكندية بمعاقبة أى شخص يكتب لافتة على مطعم أو متجر لا تحمل اللغة الفرنسية بحروف أكبر من أى لغة إضافية يستخدمها.

عن نفسى لا أفهم السبب ولا أدرك الفكرة من وراء شيوع هذه التسميات، هل يظن المسئولون أن كل فرد فينا سيصبح هابى سيتيزين حين يدخل الصن مول والفاميلى ماركت؟ هل يتوقعون أن تكتسب فيهما البضائع متدنية المستوى شيئا من الفخامة؟ ربما، فكل شىء اليوم ممكن ولو حمل امتهانا لمفردات الكرامة وكل فعل مباح ولو فاض حمقا وتشويها لمعانى الوجود.. «تشيز».
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات