يعنى الأستاذ العقاد بأدوات الدعوة المسيحية، سبلها فى الوصول إلى قلوب ووجدان الناس. يبدأ بقدرة المعلم ـ السيد المسيح عليه السلام ـ الذى نهض بها، كشأن الدعوات الكبرى التى انتشرت على ركازين: الأول احتياج العالم إليها فى أوانها، والثانى الاستعداد لسماعها.
قدرة المعلم
يتوقف حصاد العاملين أو الركازين، أول ما يتوقف، على قدرة الداعى أو المعلم.
كان العالم فى عصر الميلاد محتاجا للعقيدة مستعدا لسماعها، ولكن ما كان للعالم أن يظفر بالعقيدة عفوا بغير جهاد وقدرة من رسلها ودعاتها.
وكانت هذه القدرة موفورة فى معلم المسيحية، وسمى المعلم بحق، وبذلك نودى به فى مختلف المجامع والمحافل، فقد كانت مهمته الكبرى مهمة تعليم وإيحاء روحى عن طريق التعليم.
ونودى المسيح بالمعلم فيما روته الأناجيل مرات، ناداه بهذا اللقب تلاميذه، وناداه به خصومه وكل من يستمعون إليه من غير هؤلاء وأولاء.
وكان نداؤهم له بهذا اللقب تعبيرا عما وجدوه لديه من علم واسع وبديهة حاضرة.
ويرجح بعض المؤرخين فيما يورد الأستاذ العقاد ـ أنه كان يعرف اليونانية وأن الحديث الذى دار بينه وبين بيلاطس كان بهذه اللغة، لأن اليونانية كانت شائعة فى عصره بين أبناء الجليل، وكان كثير من اليهود خارج الجليل لا يفهمون العبرانية ولا الآرامية ويحتاجون إلى ترجمة الكتب المقدسة باللغة اليونانية، ومنهم من كان يحج إلى بيت المقدس فى الأعياد، ومن أبناء الجليل اليهود من كانوا يسافرون إلى الإسكندرية وبلاد الإغريق ولا يتفاهمون بغير اليونانية مع أبناء جلدتهم هناك، فلا غرابة فى معرفة السيد المسيح باليونانية كما كان يعرفها الكثيرون من أبناء الجليل، ولكن المحقق أنه كان يعرف العبرية الفصحى التى تدرس بها كتب موسى والأنبياء، وأنه كان يعرف الآرامية التى كان يتكلمها كلام البلغاء فيها، وأنه إذا عرف اليونانية فإنما كانت معرفته بها معرفة خطاب ولم تكن معرفة دراسة، لأن أقواله خلت من الإشارة إلى مصدر واحد من مصادر الثقافة المكتوبة بتلك اللغة، ولأن العبارات التى جاءت فى الأناجيل اليونانية منسوبة إليه تشف عن أصلها الآرامى بما فيها من الجناس أو من قواعد البلاغة وإيقاع الألفاظ.
على أن اللغة التى حملت بشائر الدعوة الأولى، كانت لغة صاحبها بغير مشابهة ولا مناظرة فى القوة والنفاذ. كانت لغة فذة فى تركيب كلماتها ومفرداتها، فذة فى بلاغتها وتصريف معانيها، فذة فى طابعها الذى لا يشبهه ولا يضارعه طابع آخر فى الكلام المسموع أو المكتوب.
كانت فى تركيبها نمطا بين النثر المرسل والشعر المنظوم، فكانت فنا خاصا ملائما للتعليم والتشويق ولحفز الذاكرة والخيال.
وكان أسلوبه فى إيقاع الكلام أسلوبا يكثر فيه الترديد والتقرير.. كما فى هذا المثال:
« اسألوا تعطوا
« اطلبوا تجدوا
« اقرعوا يفتح لكم
« لأن من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له الباب
« من منكم يسأله ابنه خبزا فيعطيه حجرا؟!
« أو يسأله سمكة فيعطيه حية؟!
« أو يسأله بيضة فيعطيه عقربا؟!
« فإذا كنتم ـ وأنتم أشرار ـ تحسنون العطاء للأبناء، فكيف بالأب الذى فى السماء يعطى الروح القدس لمن يسألون..».
* * *
لا يتركنا الأستاذ العقاد دون أن يورد نماذج سخية ناطقة بما يريدنا أن نراه، دلالة على أسلوبه عليه السلام فى تركيب اللفظ وسياق النذير والتذكير.
أما أسلوب المعنى، فقد اشتهر عنه نمط من الأمثال فى كل قالب من قوالب الأمثال، لا ينى الأستاذ العقاد عن إيراد النماذج الشاهدة على ذلك، كذلك بالنسبة للمثل الذى يعول على الرمز مثل الزارع والبذور.
ومن نماذجه مثل فتيات العرس، ومنه قوله: «أنا خبز الحياة، من يُقبل علىَ لا يجوع».
ومن نماذج المثل الذى يعول على الحكمة: «لا تطرحوا الدرر أمام الخنازير».
«بالكيل الذى تكيلون يكال لكم».. «أيها المداوى داو نفسك».
ومن نماذج المثل الذى يعول على القياس: «إن كنتم تحبون من يحبونكم فأى فضل لكم؟.. أليس ذلك شأن العشارين؟».
ومنه فى تبكيت من ينكرون عليه صحبة الخاطئين: «لا حاجة بالأصحاء إلى طبيب، وإنما المرضى يحتاجون إلى الأطباء».
ويستحيل وأنت تتابع الأمثلة التى أوردها الأستاذ العقاد، أن يغيب عنك كم بذل العقاد من علمه وجهده واطلاعه وإخلاصه حتى يستخرج هذه الكنوز من الأناجيل، لتصل إلى القارئ ـ الرسالة التى يريد.
إخلاص التلاميـذ
فضل التلاميذ الأول فى كل دعوة أنهم دعاة، يصيرون شركاء للمعلم فى نشر الدعوة..
أما الفضل الأول للتلاميذ فى الدعوة المسيحية، فهو أنهم مستجيبون، فلم يكونوا فيما يرى الأستاذ العقاد ـ قادة يدعون غيرهم إلى صفوفهم، بل كانوا الصف الأول السابق إلى الاستجابة، ثم تلته صفوف أخرى .
كان فضل هؤلاء التلاميذ أنهم أول القابلين، وكانوا بالنسبة إلى السيد المسيح هم أمته الصغرى، وكبرت مع الزمن على هذا المثال، فأصبحوا أمة كبيرة تقتدى فى الاستجابة بتلك الأمة الصغيرة.. كانوا نموذج الأمة المسيحية فى أول الرسالة، ومضت على المسيحية عدة أجيال وهى لا تخالف هذا النموذج فى التكوين ولا فى الطراز، ومن هنا كان القول بأن التلاميذ لم يكونوا دعاة فرضوا عقيدتهم على غيرهم، وإنما كانوا وغيرهم مستجييون للدعوة رعيلا وراء رعيل .
فى الدعوات قادة ومقودون .
ولكن التلاميذ فى الدعوة المسيحية لم يكونوا قادة لغيرهم، بل كانوا هم السابقون من صفوف تعاقبت وتلاحقت .
وقد وقع عليهم الاختيار كما جاء فى الأناجيل، وكان العامل الأكبر فيهم أنهم مختارون من طائفة متعارفة متآلفة، وأن اجتماعهم هكذا خير وأصلح من اجتماعهم بدءا من بيئات متباعدة، فإن المتآلفين أولى بمصاحبة بعضهم بعضا.
لم يكونوا طينة من البشر غير طينة السواد لولا تلك النفحة العلوية التى نفثتها فيهم روح المعلم القدير.
كان يخاطبهم فلا يخفون عدم فهم ما لا يفهمونه ويسألونه مزيدا من التوضيح فيوضح لهم، ويخامرهم الشك فلا ينكرونه، وربما فاتحوه عليه السلام به وسألوه أن يزيدهم إيمانا، فيزيدهم ويعلمهم كيف يتقون هذه الشكوك.
وقد أنبأهم أنهم سيتخلون عنه، وقد ناموا وهو يسألهم أن يسهروا معه، وقد لامهم غير مرة لأنهم يتنافسون على السبق أو لأنهم يستبطئون جزاءهم على الإيمان، أو لأنهم لا يزالون بعد وعظهم ـ يفرقون الناس ويدينون بشريعة غير شريعة الحب والغفران.
ليس مطلوبا من الناس فى العالم الواسع أن يدركوا مقاما من الإيمان فوق مقام الإخلاص وحسن الاستعداد للتدارك وإصلاح العيوب.
Email: rattia2@hotmail.com
www.ragai2009.com