منظومة الأخلاق فى الإسلام، معلم رئيسى من معالم عالميته، وعنايته بالمسلمين، وبغير المسلمين.. فالله تعالى رب العالمين: فلم يتجاهل الإسلام غير المسلمين، وإنما امتدت منظومة أخلاقه لتشملهم كما تشمل المسلمين، وبرز فى هذه المنظومة الأخلاقية عناية لافتة بالأغيار.
ومن يتأمل منظومة الأخلاق والشمائل والسجايا الإسلامية، يرى بوضوح أنه فضلا عن عنايتها بأن يتخلَّق المسلم بهذه الأخلاق، فإنها راعت الأغيار رعاية تجلت فيما شملته من المناقب والشمائل والأخلاق.
فالصدق سجيّة يتحلى بها صاحبها ويثاب عليها، ومرام الصدق يتجه إلى سداد القول وأمانة الشهادة وسلامة النيّة، وكل ذلك يرعى الآخر كما يرعى المسلم ــ فالمسلم مأمور بالصدق فى الشهادة ولو على النفس أو الوالدين أو الأقربين، فالشهادة لله ــ لا تميل ولا تحيد ولا تُكتم، أيّا كان المستفيد منه. يقــول القرآن الكريـم: «وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ» (الطلاق 2).
والأمانة.. ابتداء وانتهاء، تستهدف حقوق الغير، والوفاء بها.. والأمانة ورعاية العهد من صفات المؤمنين، وبها وصفوا فى القرآن الكريم: «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ» (المؤمنون 8)، والأمانة تؤدى إلى من ائتمن، والعهد يرعى من أعطى العهد.
وتستطيع أن تلمس هذا الجانب فى كل السجايا والشمائل والأخلاق الإسلامية، تراه فى الوفاء بالكيل والميزان وعدم التطفيف فيه، أو بخس الناس أشياءهم. وتراه فى العدل، فهو لا يستبعد من باحته الشانئ، ولا يجامل الذات أو الأقربين. ففى القرآن المجيد: «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ» (الأنعام 152)، وفيه: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ» (المائدة 8)، والقسط واجب ولو على النفس أو الوالدين والأقربين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ» (المائدة 135).
وهذا هو حال كل الأخلاق فى الإسلام.
ونرى الأستاذ العقاد يتناول الأخلاق فى الإسلام من زاوية أخرى، متسائلا: هل هى أخلاق قوة؟ أو أخلاق محبة؟ أو هى أخلاق قصد واعتدال؟ وهل هى أخلاق اجتماعية؟ وهل هى أخلاق إنسانية؟
ويجيب عن أخلاق القوة بأنها كذلك أحيانا، ولكنها ليست كذلك فى جميع الأحيان، لأن أخلاق القوة قد تفهم على وجوه متعددة، أو متناقضة، يحمد الإسلام بعضها ولا يحمد
بعضها.
وقد توصف الأخلاق بأنها «أخلاق محبة»، لأن أصول العلاقات بين الناس قائمة فى الإسلام على شرعة المحبة والأخوة كأن الجميع من أسرة واحدة، ولكن الإسلام ينكر على المسلم أن يحب الخبيث كما يحب الطيب، ويعرف العداوة من أجل الحق كما يعرف الصداقة فيه.
كما أن قوام الأخلاق كله ــ ليس فى التوسط أو فى القصد والاعتدال على مذهب الفلسفة اليونانية أو فلسفة أرسطو على وجه الخصوص.
أخلاق القوة
اقترن هذا التعبير باسم «فردريك نيتشه» رسول السوبر مان.
والسوبر مان عنده لا يرحم ولا يغفر ولا يعرف للضعيف نصيبا من «الإنسان الأعلى» غير نصيب الزراية والإذلال.
والأخلاق عنده قسمان: قسم للسادة لا يقبله للعبيد، وقسم للعبيد لا يقبله السادة.
وقد عرفت أخلاق القوة قبل نيتشه بتفسير يجعل القوة مرادفة للاستحسان.
والناس على زعم نيتشه ومثله الفيلسوف هوبز، يحمدون الرحمة لأنهم يحمدون القوة. ويحمدون العفو لأن الذى يعفو يعفو بقوته. ويحمدون الكرم لأنه عطاء. ويحمدون الدهاء لأنه قوة فى العقل يتمكن صاحبها من تسخير سواه، ويحمدون الذكاء والحذق والمعرفة والبراعة لأنها من علامات القوة. أما العظمة والمجد والشجاعة فلا حاجة بها إلى تفسير انتمائها للقوة.
وهذه الفضائل أو المزايا ــ فى نظرهم ــ تفيد أصحابها قوة كما تنم فيهم عن القوة..
وقالوا إن الشجاعة وسط بين التهور والجبن، وأن الكرم وسط بين الإسراف والبخل، والصبر وسط بين الجمود والجزع، والحلم وسط بين النزق والبلادة، والرحمة وسط بين القسوة والخور.. وهكذا كل فضيلة: وسط بين غايتين.
مناط القول، أن الإسلام لا يحمد من الأخلاق ــ أن تكون حيلة إلى طلب القوة، بل يحمد فيها أن تكون وسيلة إلى «طلب الكمال».
ومذهب الاعتدال، هو قوام فهم الأخلاق المحمودة فى الإسلام.
مقياس الأخلاق والآداب
مجمل الرأى أن المجتمع يقاس بالدين وليس الدين يقاس بالمجتمع.
ولا بد من الفضائل الإلهية فى تعليم الإنسان مكارم الأخلاق، والواقع أن الإنسان لم يكتسب أفضل أخلاقه إلاّ من الإيمان بمصدر سماوى يعلو على طبيعته الأرضية.
وهذا هو المقياس الأرقى لمكارم الأخلاق فى الإسلام..
ليس المقياس أنها أخلاق قوة، أو أنها أوساط بين أطراف، أو لأنها ترجمان لمنفعة المجتمع أو منفعة النوع الإنسانى.
وإنما مقياس أنها أخلاق كاملة، وأن الكمال اقتراب من الله..
ولله المثل الأعلى..
وكل صفة من صفات الله الحسنى محفوظة فى القرآن الكريم، يترسمها المسلم ليبلغ فيها غاية المستطاع فى طاقة المخلوق..
إن الدين الإسلامى بجملته وعقائده وآدابه، يستحب القوة للمسلم، ولكنها ليست القوة المتجبرة، وإنما التى تعطف على الضعيف وتحسن إلى المسكين واليتيم.. وليست القوة التى تصان بالجبروت والخيلاء.
«إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» (لقمان 18).
«فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» (النحل 29).
«أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ» (الزمر 60).
ولا يستحب الإسلام القوة للقوى إلا ليدفع بها عدوان الأقوياء على المستضعفين العاجزين عن دفع العدوان:
«وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ» (النساء 75).
ولم يوصف الله بالكبرياء فى مقام الوعيد للكبرياء بالنكال والإذلال، إلا ليذكر المتكبر الجبار أن الله أقدر منه على التكبر والجبروت.
والإسلام يزكى مذهب التوسط فيما يقبل التوسط بالمقادير أو بالدرجات كالإنفاق الذى ينتهى الإسراف فيه إلى اللوم والحسرة:
«وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَّحْسُورا» (الإسراء 29).
«وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما» (الفرقان 67).
«وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (الأعراف 31).
* * *
ولكن القسطاس فى فضائل الإسلام لا يرجع فقط إلى المقدار والتوسط فيه، بل يرجع أيضا إلى الواجب وما يقتضيه لكل أمر من الأمور، فإذا وجب بذل المال كله وبذل الحياة معه فى سبيل الحق فلا هوادة ولا توسط هنا بين طرفين، وإنما هو واجب واحد يحمد من المرء أن يذهب فيه إلى أقصاه..
الأسماء الحسنى
الإنسان مأمور أن ينظر فى صفات الله الحسنى كما تجلت فى أسمائه، فهى قبلته التى يهتدى بها إلى مكارم الأخلاق بما فى وسعه. وهذه الأخلاق كثيرة وافية بخير ما يتحرّاه الإنسان فى مراتب الكمال.
ومن أدب الإسلام أنه يقدم للمجتمع الإنسان الاجتماعى الكامل فى أقوى صورة من الخلق والأدب والسلوك.
وإذا ما وفّى المسلم بأمانة الشكر وعرفان الجميل، فلا ينسى أنه مدين لهذا الدين الحنيف بوجوده الروحى ووجوده المادى فى حاضره الذى وصل إليه بعد عهود شتى من المحن والبلاء. ولولا هذه العروة الوثقى التى اعتصم بها لضاع بوجوده الروحى ووجوده المادى فى غمار يمحوه ولا يبقى له على معالم بقاء.
ومن حق هذا الدين عليه أنه يسلمه إلى الدنيا «قوة» يعتصم بها العالم فى مستقبله بين الأعاصير التى ابتليت بها الإنسانية.
من أمانة الدين، الإيمان بإرادة الله كما تتجلى لخلقه يؤديها كل من عرفها بمقدار ما عرفه منها، ويذكر معها نعمة الرسالة الإلهية التى افتُتحت بـ«بسم الله الرحمن الرحيم» وتختتم بحمد لله رب العالمين.