السؤال الذى يمكن أن يشغل الباحث عن مكانة المرأة فى القرآن الكريم، هل اتفق أم اختلف مع ما تفرضه صفاتها الطبيعية، بالنسبة لحقوقها، وواجباتها فى الأسرة والمجتمع، ثم المعاملات التى تفرضها لها الآداب والأخلاق.
ربما تستوجب مقومات البحث، البدء فى استعراض ما فى القرآن الكريم، ثم الخلوص إلى النتائج. ولكن الأستاذ العقاد يخرج فى حالات عن هذه القاعدة، وظنى أن حجته هى إعانة القارئ أن يتابع ما يطرح وهو على بيّنة سابقة بالمحاور الرئيسية التى يدور حولها البحث ـ باعتبارها «البوصلة» التى يجرى البحث لاستكشاف عناصرها فى القرآن الكريم.
لذلك لم يجد غضاضة فى أن يبدأ بالنتائج التى سوف يسعى لاثباتها.
الصفة التى وصفت بها المرأة فى القرآن الكريم، هى الصفة التى خلقت عليها، أو هى صفتها على طبيعتها التى تحيا بها مع نفسها ومع ذويها.
والحقوق والواجبات التى قررها الإسلام للمرأة ـ قد أصلحت أخطاء العصور الغابرة فى كل أمة من أمم الحضارات القديمة، وأكسبها الإسلام منزلة لم تكسبها المرأة قط فى حضارة سابقة.
أما المعاملة التى حمدها القرآن وندب لها المؤمنين والمؤمنات، فهى المعاملة
«الإنسانية» التى تقوم على العدل والإحسان.
ماهية الدرجة التى للرجال.
يدخل الأستاذ العقاد إلى المسألة من أكثر أبوابها إثارة للجدل، لدى حواء ـ على الأقل ـ والمنتصرين لها، وهو يؤثر أن يصفى المسألة من البداية.
فقد جاء بالقرآن: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ»
(البقرة 228).
وجاء بسورة النساء: «وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىءٍ عَلِيمًا..» (النساء 32).
وجاء بنفس السورة «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ» (النساء 34).
والقوامة هنا مستحقة بتفضيل الفطرة، قبل أن تكون مستحقة بما فُرض على الرجال من واجب الإنفاق. وهذا الوجوب مرجعه إلى أفضلية الفطرة، لا إلى مجرد إنفاق المال، وإلاَّ لامتنعت القوامة إذا امتلكت المرأة مالا يغنيها عن نفقة الرجل.
فالقاعدة العامة، دون إخلال بوجود استثناءات لا تخل بالقاعدة، أن المرأة والرجل اختلفا فى كل أمة وعصر ـ فى الكفاية والقدرة فى جملة الأعمال الإنسانية، ومنها أعمال قامت بها المرأة طويلا، أو انفردت بها دون الرجال.
ومن قصور الفكر أن يقال إن المرأة إنما تخلفت فى الكفاية والقدرة بفعل الرجل ونتيجة لأثرته واستبداده وتسخيره. بل إن هذا القول على تصوره ـ يثبت رجحان الرجل ولا ينفيه.
وكعادة الأستاذ العقاد ـ يتعقب جماعة الماديين الذين يردون كل قوة إلى البنية البدنية، بأنهم أكثر القائلين بدعوة المرأة للقيام بعمل الرجل.
إلاَّ أن الواقع أن الكفاية التى تمكن من الغلبة، لم تكن قط من قبيل القوة الجسدية دون سائر القوى الإنسانية.
ومع الشواهد التى يوردها، يضيف أن الملحوظ أن فضل الرجال ـ أو الكفاية ـ أمر ظاهر حتى فى الأعمال التى انفردت بها المرأة، ومنها الطهى والتطريز والزينة وبكاء الموتى وملكة اللهو والفكاهة.
ويمضى الأستاذ العقاد فيستخرج الأدلة حتى من النواح على الموتى، وملاهى الرقص والغناء وغيرها، ليثبت أن هذه «الكفاية» ليست رهينة بالقوة الجسدية، وليست متوقفة على أثرة الرجل واستبداده، وإنما هى قد ظهرت فى الميادين الأصيلة لنشاط حواء.
ولا بأس بعد هذا التقرير، من الإشارة إلى أن الاختلافات الجسدية التى لها صلة باختلاف الاستعداد بين الجنسين، ترينا أن بنية المرأة يعتريها العطب كل شهر، ويشغلها الحمل تسعة أشهر، والرضاع لحولين قد تتصل بالحمل الذى يليه.. وأن هذه العـوارض أو الفـروق لها أثرهـا ولا شـك فى «الكفاية» بمعناها العام، بل هو كـان لشرح معنى «الدرجة» التى تميز الرجل عن المرأة فى حكم القرآن الحكيم.
ولكنك لا تستطيع ــ وأنا معك ــ أن تتجاهل أن الثابت أمامنا أن المرأة اجتازت بكثير الانحصار فى الأعمال التى انفردت بها من الطهى والتطريز والزينة واللهو والفكاهة. أو لا تنفرد المرأة وحدها بما استشهد به، فقد انتشر فن الطهى والعمل به بل وإتقانه؛ بين الرجال حتى فاقوا قدرات المرأة فى كثير من الأحيان. يشهد على ذلك الطهاة فى معظم الفنادق والمطاعم وغيرها. كذلك التطريز، تعدد العامليين به تعددًا ظاهرًا وإتقانه بين الرجال، ولم يعد مقصورًا على النساء أو تنفردن به، وأخيرًا اللهو والفكاهة، ويكفى أن تستعرض نجوم الكوميديا فى العالم، لترى أن هذا الانفراد لم يعد يطابق الواقع الآن.
ولكن مراجعتك ــ وأنا معك ــ سوف يستوقفها أن هذا هو هو مراد العقاد، ولا يخفيه، فهذه الحقيقة التى اعترضنا بها، هى هى التى يستخلص منها الدرجة التى للرجال.
يؤيد الأستاذ العقاد ـ ما جاء بالقرآن الكريم، فهو يسجل ــ للرجال ــ فى آياته التى عرضناها، هذه الدرجة.
وهو هنا ينحاز لصواب القرآن، ويقدم أدلته على صوابه، فذلك أولى فى نظره من مجرد إرضاء حواء بإنكار ـــ لا يستطيعه أحد ــ لما ورد فى القرآن الحكيم.
فى الأخلاق.
وهذه بدورها منطقة حساسة، قد تجد اليوم من ينازع فيها من بنات حواء، بيد أن المصدر ليس كلمات البشر، وإنما نصوص القرآن.. فقد وصفت النساء «بالكيد» فى ثلاثة مواضع من القرآن الحكيم.. مرتين بلسان يوسف عليه السلام، ومرة على لسان العزيز فى سورة يوسف.
«قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ» (يوسف 33).
«فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» (يوسف 28).
ويدخل فى الكيد صفات كثيرة بعضها يُمدح كالمكيدة فى الحرب، وبعضها يُذم.. وقد جاء وصف الكيد فى ذات سورة يوسف منسوبًا إلى إخوته، فجاء على لسان يعقوب عليه السلام:
«قَالَ يَا بُنَىَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» (يوسف 5).
وجاء منسوبًا بمعنى التدبير إلى الله عز وجل:
«فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ» (يوسف 76).
أما الكيد الذى وُصفت به امرأة العزيز وصاحباتها، فهو كيد يُعهد فى المرأة ولا يُعهد أو يُنْسب إلى غيرها.. ويدل على هذا الكيد ما أرادت به امرأة العزيز أن تغش زوجها.
واحتالت له من مراودة غلامها عن نفسه، ثم تنصلها واتهامه هو بمراودتها.. وكلها أعمال خلاصتها إظهار غير ما تبطن، والاحتيال للدس والإخفاء.
* * *
وهناك ما يرجع إلى طبيعة فى الأنوثة تلزمها فى كل مجتمع، ولا يفارقها باختيارها أو بغير اختيارها.
وحواء مجبولة كذلك على التناقض بين شعورها بالشخصية الفردية، وشعورها بالحب والعلاقة الزوجية. فهى كجميع المخلوقات الحية ذات «وجود شخصى» مستقل تحرص عليه، وتأبى أن تلغيه أو أن تتخلى عن ملامحه ومعالمه، وهى فـى حوزتهـا «الشخصية» مدفوعة إلى صد كل افتيات ينذرها بالفناء فى شخصية أخرى.. ولكنها فى أشد حالات الوحدة لا تتوق إلى شىء كما تتوق إلى الظفر بالرجل الذى يحميها بقوته ويستحق منها أن تأوى إليه.
وحب الزينة أصل يشاركها فيه الرجل فى ظاهر الأمر، وإن اختلفت الصور والأهداف.
وجملة القول إظهار غير الباطن، يعرض للرجال والنساء، ولكن الأنوثة تُخص بلون منه، حين يلجئها الاضطرار ألاَّ تُظهر كل ما فى نفسها!
اللهم اجعل هذا الحديث خفيفًا على بنات حواء.