أعرف أن الحديث عن «قوامة» الرجال ــ يبدو غريبا الآن، بعد المساحات الهائلة التى قطعتها حواء، والمناصب التى تولتها وتتولاها، التى جاوزت الملكية الوراثية، إلى الجمهوريات القائمة على الانتخاب لا الوراثة، فلم تكن الحياة مقصورة على الملكات التى لازلنا نراها إلى اليوم، وإنما امتدت إلى رئاسة الدول، ورئاسة الوزارات، والوزارات، والمجامع العلمية، والمؤسسات والشركات الكبرى، وقد يبدو غريبا الحديث عن قوامة الرجال لشخصيات نسائية من وزن «مرجريت تاتشر»، زعيمة حزب المحافظين ورئيسة وزراء بريطانيا لسنوات عديدة، والملقبة بالمرأة الحديدية، والمستشارة الألمانية السابقة «أنجيلا ميركل» التى تزعمت وأدارت السياسة والسلطات الألمانية لسنوات، فأى قوامة للرجل على مثل هذه أو تلك.
لا مراء أنه إزاء ذلك يبدو الحديث عن «القوامة» غريبا، ولكن تزول هذه الغرابة إذا نظرنا إلى هذه أو تلك وسط أسرتها، فهى الأم، وهى راعية البيت، وهى أيا كانت مناصبها فى كنف زوج أو أب، وهى لا يمكن أيا كانت المناصب أن تضحى بأنوثتها، أو تغادر ما اعتادت عليه الإناث من التجمل والعناية بزينتها، وهى لا تقاطع الإنجاب إذا كانت فى سن الإنجاب، رأينا من أيام صاحبة منصب كبير ظهرت فى الصورة حاملا، ومن ثم فإذا نظرنا لوضع حواء داخل أسرتها، زوجة أو ابنة، فلن يبدو الحديث عن القوامة غريبا. هذا إلى أن القواعد لا توضع ــ حتى فى القوانين الوضعية للأفراد ولا للحالات الفردية أو الشاذة أو الاستثنائية، وإنما توضع للجميع، وإلَّا فقدت شرعيتها بفقدها صفة العموم.
وقد عاد الأستاذ العقاد، حين حديثه عن الأخلاق الاجتماعية عاد إلى «قوامة الرجال»، وقفى ببيان الحكمة القرآنية فيها. فيرى أن حكمتها تتجلى من أحوال المجتمع، ومن أحوال الأسرة، أو أحوال الصلة الزوجية، أو الصلة الخالدة بين الذكر والأنثى.
فالأخلاق فى المجتمعات الإنسانية بعامة ــ مصلحة دائمة، وضرورة لا قوام لأى مجتمع بغيرها على صورة من صورها.
وقد كان السائغ عقلا أن تنشئ المرأة خلائق العرف كله لأنها التى تتسلم النوع منذ نشأته فى الأرحام، وتحتضنه وتواليه إلى أيام نموه. بيد أن الواقع المتكرر يشهد بأن المرأة هى التى تتلقى العرف من الرجال، حتى فيما يخصها من خلائق كخصال الحياء والحنان والنظافة..
ومن حياء المرأة الذى تتلقاه من الطبيعة، أنها تخجل من الإفصاح ــ عادة ــ عن دوافعها أو رغباتها الجنسية، وتنتظر ــ عادة ــ مفاتحتها. ويمنعها من العكس مانع من تركيب الوظيفة بين الجنسين، فقد خلق تركيب الأنثى للاستجابة ولم يخلق للابتداء أو الإرغام.
وهذا الحياء الذى تمليه الآداب ــ تدين به المرأة على قدر اتصاله بشعور الرجل نحوها ونظرته إليها.
وألصق بالمرأة حنانها المشهور، لا سيما الحنان للأطفال من أبنائها وغير أبنائها.. ومع ذلك ترى أن الرجل يمكن أن يسوى فى المعاملة بين أبنائه وأبناء زوجته من غيره، ولو من قبيل التجمل ورعاية الشعور، ولكن المرأة تسلك ــ فى الغالب ــ غير هذا السلوك فى معاملة أبناء زوجها من غيرها. وقد لا ينجو هؤلاء أحيانا من سوء المعاملة على درجات، بل وقد يحدث كثيرا أن يتم التمييز والإيثار علنا بلا مواربة.
وليس فى أخلاق المرأة المحمودة، خلق أخص بها وألصق بأنوثتها من خلائق ثلاث: الحياء، الحنان، والنظافة.
ومما له مغزاه فى تقسيم الأخلاق بين الجنسين أن أساطير الخيال ووقائع التاريخ تتفقان بالبداهة وبالمشاهدة على هذا التقسيم. فقد جاء فى أساطير اليونان الأقدمين خبر جيل من الأمم ينعزل فيه النساء، ويتدربن على القتال من الطفولة، ولا يقبلن بينهن أزواجا يعيشون معهن، بل يأسرن الأزواج ثم ينصرفن عنهم، ويستحيين البنات من الذرية، ويقتلن البنين أو يَرْدُدْنَهم إلى آبائهم إن كانوا معروفين. وكان اسم هذا الجيل (الخرافى) «جيل» ومعناها «بغير أثداء»، ومغزى ذلك أن المرأة لا تتصف بهذه الصفة إلا إذا خرجت من طبيعتها إلى أخرى تشبه الرجال وتخالف أطوار النساء.
ويعقب الأستاذ العقاد بأنه يجزم بالصواب فيما يعلمه من دلالة الطبع ودلالة العقل، وأنه يفهم صواب الحكمة القرآنية التى أثبتت للرجل القوامة على المرأة فى الأسرة، وفى الحياة الاجتماعية. وقد يختلف كثيرون مع الأستاذ العقاد ــ بحكم العصر الآن ــ فى مد هذه القوامة إلى الحياة الاجتماعية التى صارت تشهد قوامة للمرأة فى غير قليل من الأحيان.
ومرة أخرى يعود الأستاذ العقاد هنا إلى بعض ما كتبه فى «هذه الشجرة» فيذكر أن الأخلاق التى يسمو بها الإنسان إلى مرتبة التبعة والحساب أو مسئولية الآداب والشريعة والدين ــ هى أخلاق «تكليف وإرادة»، وليست أخلاق إجبار وتسخير، أو قسر وإرغام.
وأنه من هنا صح أن يقال إن المرأة كائن طبيعى وليست بالكائن الأخلاقى، وعلى ذلك المعنى الذى يمتاز به خلق الإنسان ولا يشترك فيه مع سائر الأحياء.
وهنا يتحدث عن «الاحتجاز الجنسى» ويقصد به امتلاك المرأة زمام المنح والمنع، وهى خصلة حتى فى غير الإنسان من المخلوقات، تراها فى صراع الديكة على إناث
الدجاج، وتراها فى لهو القطة بالقط قبل أن تسمح له بما تريد، إلى غير ذلك من المخلوقات التى اختار أمثلة من طبائعها للتدليل على ما يريد.
وهو يرى أن هذا «الاحتجاز الجنسى» غريزة عامة بين جميع الإناث من جميع الأنواع، وأنه متى بلغ هذا الاحتجاز الجنسى مبلغه الذى قصدت إليه الطبيعة، تكون الأخلاق الأنثوية قد بلغت غايتها.
ومن ضلال الفهم أن يخطر على البال أن الحياء صفة أنثوية، وأن النساء أشد حياء من الرجال. فالواقع ــ كما لاحظ شوبنهور الذى يستشهد به ــ أن المرأة لا تعرف الحياء بمعزل عن تلك الغريزة العامة، وأن الرجال قد يستحون مما لا تستحى منه النساء، ويشهد على ذلك سلوك الجنسين فى الحمامات العامة، إلاَ ما كان لعيبٍ جسدى تحب المرأة أن تواريه.
وينتقل الأستاذ العقاد من هذه المسألة التى أفاض فيها إفاضة لا أستطيع أن أجاريها، إلى الفصل الذى كان قد عقده على رأى المعرى فى المرأة، فيقتطع منه فقرات كاملة يتساند إليها، وأحيل من يحب على ما تناولته بالمجلد الأول لمدينة العقاد عن المرأة فى رأى المعرى والعقاد.