لا أشك فى أن الكاتب أشرف العشماوى قرأ جيدا ما كتبه نجيب محفوظ فى روايته الشهيرة (السكرية) حين وضع الشيوعى فى مواجهة إيديولوجية مع شقيقه الإخوانى، وهما أبناء البيت الواحد (عائلة شوكت)، بل وضعهما فى سجن واحد عند نهاية الرواية، ولذلك أشفقت عليه كثيرا وهو يكرر هذا الخيار الفنى من جديد فى روايته (السرعة القصوى صفر / الدار المصرية اللبنانية) التى يقوم بتوقيعها مساء السبت المقبل بمبنى قنصلية بوسط البلد خلال ندوة تديرها الكاتبة منى سراج.
وهذه الرواية فى ظنى هى أهم رواياته من الناحية الفنية، وتمثل قفزة كبيرة فى تجاربه التى اعتمدت إلى حد كبير على تمثل وقائع حقيقية وإعادة تركيبها بطريقة فنية، واستند صاحبها فى الكثير منها إلى أرشيفات ووقائع قضائية، لذلك كان خياره فى اللغة مقيدا فى الغالب بلغة تقريرية، لكن لغة الرواية الجديدة اختلفت وبدت أكثر جاذبية ومرونة، دون أن يتخلى العشماوى عن النبرة التشويقية التى قادت إلى عالمه الكثير من القراء.
وفى روايته الجديدة فعل مثلما فعل محفوظ، ووضع الشقيقين ليس فقط فى مواجهة إيديولوجية، بل زاد عليها المواجهة العاطفية، فقد خاض الشقيقان عبر صفحات روايته منافسة مفتوحة على قلب حبيبة واحدة، فاز بها الإخوانى وتزوجها، لأنه كان الأجرأ فى طلب يدها، بينما ظل الشقيق الآخر يدفع ثمن تردده، والمجاز الذى ترغب الرواية فى الإشارة إليه يبدو بالغ الوضوح. ما يؤكد فعلا أن مجتمعنا لم يبارح الخيارات التى تم حشره فيها طوال ما يقرب من قرن كامل.
ومثلما فعل محفوظ أيضا فى رواياته الأخرى التى تناول فيها شخصية (الإخوانى) ومنها (باقى من الزمن ساعة) و(حديث الصباح والمساء) و(المرايا) لم يخف العشماوى نقده للخطاب السياسى الذى تقدمه جماعة الإخوان المسلمين وإبراز إدانته الأخلاقية للبطل الذى يمثل صوتها، لكنه غلف هذه الادانة بقدرة فائقة على رسم الشخصية، وأبقى على الكثير من الظلال الواقعية التى حكمت طريقته فى تأمل ماضيها الدرامى ومراحل تكوينها وتحولاتها، وهو هنا اختلف عن تناول محفوظ الذى فضل دائما أن تبقى الشخصيات الممثلة للاسلام السياسى أقل جاذبية فى تكوينها.
وبفضل هذا الاختلاف بدت شخصية (شكرى تاج الدين) بالغة التعقيد وأكثر استعدادا للمغامرة والمقامرة، وكانت فى ذلك على عكس شخصية شقيقه (فهمى) المسكونة بكثير من القلق الوجودى، وبقدر من التحفظ الذى عطل قدرتها على الفعل، وكبلها بمسئوليات أخلاقية، بحيث بدت أمام القارئ عاجزة لأنها خلت من الطابع الانتهازى الذى وصم سلوك الشقيق الأول.
ويمكن النظر للرواية كذلك بوصفها رواية أجيال، لأنها تبرز مركزية (العائلة) ورمزية حضورها ففى حين انتمى (شكرى) لجماعة الإخوان اقتداء بخاله، فإن أخوه فهمى الذى عمل وكيلا للنائب العام، كان أقرب لقناعات الجد وإيمانه بالعدل الاجتماعى.
لفت العشماوى نظر الروائيين والقراء إلى كنز وثائقى غير مستعمل وهو أرشيف الإذاعة المصرية الذى عاد إليه حيث استعمل بيانات الإذاعات الرسمية والأهلية لتصبح للمرة الأولى مصدرا توثيقيا مهما للروايات التى كانت تعتمد فى الماضى على الأرشيفات الصحفية، كما فعل صنع الله إبراهيم على سبيل المثال فى أعماله، وعززت التقنية التى أوجدها العشماوى ثقة القارئ فى الطابع الواقعى للأحداث وتاريخيتها كذلك. وزاد من هذا الشعور ذكاؤه فى التعامل مع شخصيات تاريخية مثل حسن البنا وجمال عبدالناصر وأنور السادات بوصفها شخصيات روائية وبنى حولها الكثير من خيوط التخييل الروائى سواء فى تكوينها داخل النص أو الحوارات التى تضمنت الكثير من الشفرات النصية. وبعيدا عن تقنية تعدد الأصوات التى استعملها العشماوى بمهارة تظل شخصية فايز حبشى عامل اللاسلكى فى الإذاعة هى الشخصية الأكثر إغراء للقارئ وأظن أنها ستخلد كواحدة من أكثر الشخصيات انسحاقا فى تاريخ الأدب العربى، فهى بعيدا عن الدور الذى تؤديه فى تأكيد فكرة التزييف الإعلامى فإنها بمثابة تمثيل متفرد لفكرة التهميش الناتج عن التمييز الطبقى والطائفى، فقد استعملها الجميع وقبل صاحبها بهذا الاستغلال آملا فى فرصة أفضل للعيش لكنه لم يحظَ بها أبدا.