هى ليست ظاهرة مصرية فقط، أن تعمد الطبقات الوسطى إلى تأييد السلطوية والتخلى عن المطالبة بالحقوق والحريات فى مراحل التغيير المجتمعى ولحظات الحراك الشعبى.
شاركت الطبقة الوسطى المصرية بكثافة فى ثورة يناير 2011 وتعاطفت فى أعقابها مع الفكرة الديمقراطية التى ربطت بينها وبين بناء نظام سياسى واجتماعى جديد وتحديث مؤسسات الدولة الوطنية وتداول السلطة عبر انتخابات تنافسية، ثم سرعان ما انقلبت على كل ذلك فى صيف 2013 وتبنت الانسحاب من الإجراءات الديمقراطية والارتداد إلى حكم الفرد وتماهت مع هيستيريا تبرير المظالم والانتهاكات الواسعة.
باختياراتها هذه، لم تختلف الطبقة الوسطة المصرية عن الطبقات الوسطى فى العديد من مجتمعات أمريكا اللاتينية فى ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين حيث كان انتقالها من المطالبة بالديمقراطية والانتخابات الحرة إلى دعم الانقلابات العسكرية وإلغاء السياسة وقمع المجتمع المدنى وسطوة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية سببا رئيسيا فى تأخر التحول الديمقراطى فى البرازيل والأرجنتين وشيلى وغيرها.
باختياراتها هذه، لم تختلف الطبقة الوسطى المصرية أيضا عن الطبقات الوسطى فى بعض المجتمعات الآسيوية كماليزيا وإندونيسيا، وبهما عطل التحول الديمقراطى طويلا بسبب مراوحة مواطنى الطبقات الوسطى بين القليل من طلب الحقوق والحريات وسيادة القانون فى فترات النمو الاقتصادى وتحسن الخدمات الأساسية والظروف المعيشية وبين ردة إلى البحث عن ديكتاتور محتمل وإلى هجر البرلمانات والحكومات البرلمانية والسلطات القضائية المستقلة باتجاه تأييد حكم الفرد فى فترات التراجع الاقتصادى. بل إن اختيارات الطبقة الوسطى المصرية تكاد تتطابق مع التفضيلات الراهنة للطبقة الوسطى فى تايلاند التى دفعتها الانتصارات الانتخابية المتكررة لقوى حزبية وسياسية تمثل الطبقات الفقيرة والمهمشة والريفية إلى التخلى عن مطالبتها بالديمقراطية وتأييد تدخل مؤقت للجيش فى السياسة لعزل رئيس وزراء منتخب (تاكسين شيناوترا) ثم تأييد تدخل آخر فى 2014 عطل الحياة البرلمانية وألغى السياسة وجاء إلى الحكم بمجلس عسكرى وأحكام عرفية (رفعت الأحكام العرفية بعد 10 أشهر من الانقلاب العسكرى).
ليس لاختيارات الطبقة الوسطة المصرية الخصوصية التى قد نظنها ويزينها لنا انكفاؤنا على أوضاعنا الداخلية المأزومة، أو يقودنا إليها توقفنا عن استخلاص العبر مما حدث ويحدث فى المجتمعات ذات الأوضاع المشابهة. ومن ثم يصبح السؤال الجوهرى هو لماذا تمعن الطبقات الوسطى فى تأييد السلطوية والتعاطف مع الانقلاب على الإجراءات الديمقراطية وتتبرع بإسقاط الأمل فى صون الحقوق والحريات واحترام سيادة القانون من حساباتها وتتورط فى الصمت على المظالم والانتهاكات، هذا إن استنكفت التماهى مع هيستيريا التبرير؟
تتعدد الأسباب. فى فترات النمو الاقتصادى وتحسن الخدمات الأساسية والظروف المعيشية، تأتى الطبقات الوسطى إلى المطالبة بالديمقراطية مدفوعة بالرغبة فى المشاركة فى الشأن العام، وفى ممارسة الاختيار المباشر للحكام ووضعهم تحت مجهر الرقابة والمساءلة والمحاسبة. تأتى إليها محملة بالرغبة فى محاربة الفساد الذى دوما ما ترعاه السلطوية، وفى إقرار مبادئ الكرامة الإنسانية والمبادرة الفردية وتكافؤ الفرص والمساواة التى تفتح الآفاق أمام المزيد من الحيوية والمزيد من الحراك الاجتماعى المستمر للمواطنات والمواطنين صعودا وهبوطا. تأتى إليها باحثة عن الحياة فى مجتمعات ودول طبيعية.
غير أن الطبقات الوسطى لا تأتى إلى المطالبة بالديمقراطية، وهى عازمة على تحمل الكلفة المرتفعة للتخلص من السلطوية ونخبها التى أبدا لا تخلى أماكنها فى الحكم أو تتخلى عن امتيازات الثروة والنفوذ بسهولة. كذلك تغيب عن الطبقات الوسطى طاقات التحمل الجماعى للتداعيات السلبية لمراحل التغيير وللحظات الحراك الشعبى على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعلى قضايا الاستقرار، علما بأن مراحل التغيير ولحظات الحراك هذه هى التى عادة ما تمهد للتحول الديمقراطى أو سرعان ما تتبعه. وحين تكتشف الطبقات الوسطى خوفها العميق من الانتصارات الانتخابية المتوقعة أو (حال حدوثها) المتتالية للقوى السياسية التى تمثل الطبقات الفقيرة والمهمشة والمحرومة – كاليسار فى أمريكا اللاتينية والأحزاب الشعبوية فى آسيا واليمين الدينى فى بلادنا، فإنها تغادر تماما مساحات المطالبة بالديمقراطية وترتد إلى الوراء فى تحالف عبثى مع نخب السلطوية التى أرادت إزاحتها وفى استدعاء مريض للحاكم الفرد لكى يخلصها من خوفها. لا استثناء فى حالتنا.