كانت السماءُ حالمةً، والقمر يطُلُّ بهيًا، يتتبع الأقدامَ المُسرِعة، ويهدي الخطواتِ الحائرةَ، ويحنو على الراكدين، وغانم يتهادى مع جموع المُتهادين، لا خريطةٌ تقوده، ولا مَقصد يتوجه إليه؛ ليس إلا اعتياد السير ما انبسطت أمامه الأرض؛ تتحرك في آلية ساقاه، وتتأرجح ذراعاه، ويتفادى كلما أمكن عثرات الطريق.
***
لم يعد منذ الظهيرة إلى منزله، خرج مِن الجامعة بخُفيّ حنين؛ راح يحدث نفسه مندهشًا، ويعيد التفكير فيما سمع مِن الموظفين المختصين، ثم جعل ينعى حاله وحال أغلب أقرانه الغافلين؛ إذ لن يتمكن أحدهم بعد الآن، من قيد اسمه مع الراغبين في الصعود درجة، وتحضير رسائل علمية لنيل الدكتوراة والماجيستير.
***
المبلغ الماليّ المَطلوب لقاء القيد والتسجيل، يفوق ما قدر بمراحل؛ ذكره المُوظَّفُ بدقة، وشدَّد على الأحرفَ وهو ينطقها؛ مُدركًا أن كلماته ستنزل على الرأس كصاعقةٍ، لا راد لها ولا حامي منها. لم يصدق غانمُ أذنيه أول الأمر، فاستفسر مِن جديد وأحكم الصياغة؛ لعل الرجل لم يسمع جيدًا، فاختلط عليه المَطلب. زفر الموظفُ الذي اعتاد سماع السؤال مِن زبائنه مرات عدة، وكرر الإجابة ذاتها؛ قال في ثبات مشهود، بعد أن عدد البنود وأجرى الحسبة: "عشرة آلاف جنيه". لم تظهر في جفنه رجفةٌ، ولا بان عليه تردد أو خجلٌ، ولا اكتنفته حسرة كتلك التي غمرت غانمَ، وفصدت مِن جبينه العرقَ، اصفر وغامت عيناه وكادت ساقاه تخزلانه، لولا أن أحكم السيطرةَ على أعصابه، واستدار بغير كلام، مُغادرًا الغرفة، وقد استحال الهدف الذي سعى إليه يستحيل سرابًا.
***
راح يقلب الاحتمالات كلها، لكنه لم يصل إلى نتيجة مرضية؛ أربابُ الأعمال يفضلون ذوي الشهادات العليا المتقدمة، والشهادات تمنحها الجامعات، والجامعة كما أخبره الموظف القابع خلف مكتبه المائل؛ أصدرت مرسومًا موثقًا، وحددت فيه المصاريف. زاد الرجل أن أخرج مِن درج مكتبه بضع ورقات؛ تؤكد الموقف وتحسم الجدل.
***
للحق؛ لم يعثر غانم في أي مرحلة على عمل يتناسب مع ما درس، لا وظيفة تكافئ الوقت الذي قضاه في السنوات الفائتة بين ضفاف الكتب، ولا مدخرات في حوزته تكفي نصف أو حتى ربع دكتوراه، بل أن ربع الجبن الرومي، أو حتى ثُمن البسطرمة؛ لم يعودا في متناول يده.
***
لم يكن في حياته بليدًا متكاسلًا؛ لكنه امتنع عن طرق سُبُلٍ لم ترق له، وأبوابٍ عدها أدنى مِن طموحه وقدرته. بعض أصدقاء الدراسة ورفقائها، ترقوا في سلم التجارة منذ زمن؛ منهم مَن فاز بعربة من عربات شباب الخرجين، وتناسى كتب الهندسة والفلسفة والقوانين، وأصبح ذا باع في رص البطاطس، وصف التفاح والقلقاس؛ لكن غانم العازف عن مجاراتهم، فوت الفرصة السانحة وعافها، وظل عاكفًا على البحث والدرس، فنال الماجيستير بجدارة لافتة، وتصور لسذاجته المفرطة، أن الدكتوراة التي ستقفز به قفزة نجاحٍ كُبرى على درب تفوقه؛ قاب قوسين أو أدنى.
***
تلبسته إذ هو جالس على الرصيف روح شريرة، وركبه الغرور وأغواه الكِبر، فقرر أن يرسل بحلول الصباح، خطابات مفصلة للمسئولين؛ صغيرهم وكبيرهم؛ احتجاجًا على الزيادة المُفجعة التي طبقتها إدارة الجامعة، لعلَّ في الأفق مَن يستجيب. راح يهاتف كل مَن تذكَّر مِن مَعارفه، طالبًا منه التوقيع، نافثًا حماسته الفائقة، مُحفزًا بما استطاع الهِممَ، مُعربًا عن ثقته بتحقيق مكسب ولو بسيط؛ يرفع عن كواهل الباحثين والدارسين على شاكلته، جزءًا مِن العبء.
***
لم يعجب تصرفُ غانم أي أحد؛ خاصة هؤلاء الذين يعلمون وحدهم علم اليقين، ما يجب وما لا يجب، وما فيه صالح البلد، وما قد يعرقل صِدقًا؛ تقدم وازهار الوطن. تجاهله الجميع؛ فلم يحظ برد على شكواه، ولا بدعوة لفحص المظلمة؛ رغم حرصه على شحن هاتفه، وعلى كتابة رقمه وعنوان بيته، بأحرف واضحة.
***
حَلَّ المساءُ وتجلَّى القمر باسمًا، مُوزعًا عطاياه على المواطنين الصالحين، متجاهلًا منهم المارقين، فيما الصمت يلف غانم المسكين، ويراكم في نفسه الشجون. مرت ساعات ثم أيام٫ وهو في غياهب النسيان؛ لا يخاطبه أحد ولا يطرح عليه سؤال؛ وكأنه في الكون عدم. مع مرور الوقت، تصاغرت في رأسه الدكتوراة، وتضاءلت الأمنيات، وبدت طموحات البحث والدراسة تافهة، مقارنة بما هو أهم. لم يعد في ذهنه الفوز بأي غنيمة، سوى العودة إلى مساء أمس؛ مساءٌ يؤرجح فيه ذراعيه، ويحرك ساقيه، موليًا إلى حيث تصطف أقفاص البطاطس والكوسة والبصل. مساء غانم.