كلما طالعت الترتيبات الحكومية التى تعظم الاستفادة من المناطق الأثرية، وخاصة تأهيل منطقة أهرامات الجيزة، وقرب افتتاح المتحف المصرى الكبير ومطار سفنكس انتابنى شعور بالأمل والسعادة. هذه المنطقة التى ناديت كثيرا فى مقالات سابقة وعبر منصات إعلامية متعددة بضرورة استثمارها على نحو يليق بمحتواها الثقافى والترفيهى. ناديت بوقف استنزاف سمعة مصر السياحية فى مشاهد القبح العشوائية المحيطة بأعظم عجائب الدنيا القديمة، والتى مع الأسف اختارها متحف التاريخ الطبيعى بواشنطن واجهة لأهرامات الجيزة فى مدخل الجناح المصرى! طالبت وزير الثقافة عبر مقال بجريدة الوفد عام 2011 بضرورة التدخل بإهداء المتحف صورة من زاوية مختلفة للأهرامات. تعجبت كثيرا من ربط مناطق أثرية ومزارات طبيعية أقل أهمية فى دويلات صغيرة بشبكات من الأتوبيسات المجهزة وعربات التلفريك، بينما لم تفكر مصر فى ذلك، كنت حريصا على أن يتحرك السائحون بين المزارات والمقاصد فى أكبر متحف أثرى مكشوف عبر وسائل ترفيهية تدر عائدا وتحد من سيطرة عصابات ابتزاز السائحين المنتشرة فى منطقة نزلة السمان وما يجاورها. وكنت أراها أكثر أمانا من البالون الذى يستخدم فى صعيد مصر والذى تسبب فى عدد من الحوادث المؤسفة.
كنت ومازلت أرى مناطق سياحية مصرية متعددة يمكن إدارتها على غرار المناطق الاقتصادية فى قناة السويس والمثلث الذهبى وغيرهما. تكمن الفكرة فى صناعة مدن سياحية عابرة للمحافظات والتقسيمات الإدارية التقليدية، يتحقق فيها عنصر الاكتفاء الذاتى، يمكن إدارتها بشبكات حديثة للطرق، تقبل تطبيقا حاسما ومتطورا لقوانين المرور، تقبل تطبيق التذكرة الذكية والدفع الإلكترونى لكل شىء، يتحرك فيها السياح المصريون والأجانب بأمان إذ يمكن أن تخضع إدارتها ومراقبتها لشركات أمن متخصصة، لا يحتاج السائح طوال فترة إقامته أن يخرج من تلك المنطقة السياحية إلا إلى منطقة سياحية أخرى.. فكل منطقة مجهزة أو موصولة بشكل مباشر بمطار دولى ومجموعة من الفنادق والشقق الفندقية التى تديرها شركات للسياحة تستثمر آلاف الوحدات السكنية المغلقة التى اشتراها أصحابها لتخزين القيمة ثم تركوها دون أى استغلال أو منفعة.
***
منطقة معبدى الكرنك والأقصر بمحافظة الأقصر، ومنطقة الحدائق بالجيزة ومنها حديقتا الحيوان والأورمان، ومنطقة الواحات البحرية... يمكن جميعا أن تدار بفكر وفلسفة المناطق الاقتصادية السياحية ذات الطبيعة الخاصة. السياحة فى مصر مورد هام للنقد الأجنبى وللدخل القومى بصفة عامة، لكن أحدا لا ينكر انخفاض الإيرادات السياحية لمصر عن أى طاقات ممكنة تملكها الدولة. مصر تستقبل فى أحسن الأحوال ما بين 10 إلى 13 مليون سائح سنويا، ولا تحقق من الإيرادات السياحية إلا ما يزيد قليلا على 13 مليار دولارا (وهو رقم قياسى تحقق عام 2019 بجهد حكومى مشكور) بينما تتمتع بتنوع فى مواردها السياحية يسمح لها بتحقيق أكثر من خمسة أضعاف هذين الرقمين. فى مصر سوق كبير لاستهلاك الخدمات السياحية، يسمح باستقرار حصيلة الإيرادات السياحية فى حالات إغلاق المطارات والظروف الطارئة وانقطاع السياحة الأجنبية، كالتى يمر بها العالم منذ ما يقرب من تسعة أشهر بسبب جائحة كورونا. السائح المصرى الميسور عادة ما يفضل السفر إلى أوروبا هربا من تكاليف خيالية فى إيجار شاليهات وغرف الفنادق بكثير من شواطئ الساحل الشمالى وساحل البحر الأحمر! بينما تقدم ذات الخدمات السياحية للسائح الأوروبى الوافد إلى مصر بأسعار لا تتجاوز 10% أو 20% من تلك المقدمة للمصريين فى بلادهم! مفهوم طبعا أن المزايا التى يحصل عليها السائح الأوروبى (والذى فى كثير من الأحيان يأتى بزجاجة المياه فى يده فى إشارة إلى حرصه على عدم الإنفاق فى مصر) هى مزايا مرتبطة بعقود مستقرة وطويلة الأجل تبرمها شركات السياحة مع الفنادق المصرية، ومفهوم أن كثيرا من تلك الفنادق تفضل السائح الأجنبى ولو بسعر منخفض، كونه لا يسىء استخدام موارد الفندق على النحو المخجل الذى يصدر عن الكثير من المصريين، لكن تلك مشكلة يمكن بل ويجب التعامل معها فورا قبل أن نفقد موردا اقتصاديا خطيرا، وهو فى ذات الوقت المواطن المستهدف من عملية التنمية فى مصر.
من ناحية يمكن تأهيل وإعداد السائح المصرى لاتباع السلوك المألوف والمقبول من مقدمى الخدمات السياحية، ومن ناحية أخرى تعطى المناطق الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة حرية فى التنظيم وإدارة الاستثمارات داخل المنطقة على نحو يشجع الاستثمار، ويضع نسقا عادلا مستقلا يحكم العلاقة بين السائح والفندق وشركات النقل والطيران إلى آخر الأطراف، حتى وإن ترتب على مخالفة كود الأخلاقيات غرامات يتحملها الطرف المخالف بعيدا عن المسار التقليدى للتقاضى. كذلك تحقق الإدارة الناجحة للمنطقة الاقتصادية السياحية عددا من المزايا الأخرى، فقد سبقت الإشارة أعلاه إلى السائح الأجنبى الذى يعزف عن الشراء من المتاجر فى مصر، ويأتى بنظام All inclusive ليتجنب أى معاملات مع الباعة وسائقى الأجرة وخلافه، لأننا مع الأسف قد اكتسبنا سمعة سيئة (نرصدها بسهولة فى الأعمال الأجنبية الدرامية بل والمصرية أيضا) مؤداها أن السائح يخضع للابتزاز والغش، وأن التاجر المصرى يحب الفصال، وهى سمعة لن نمحوها بسهولة، لكن خلق عالم موازٍ فى منطقة سياحية يعاقب فيها مرتكب هذا السلوك، سوف يساعد السائح على الشراء وإنفاق الأموال خاصة مع الانخفاض النسبى لسعر صرف الجنيه مقابل العملات الرئيسية، التى اعتاد السائح أن يقيم مشترياته بها حتى فى دول آسيا وشرق أوروبا.
***
أناشد السيد وزير التربية والتعليم بما عهدناه منه من فكر متقدم وطموح غير محدود أن يقدم مناهج وبرامج تأهيل للطلاب فى مختلف مراحل التعليم بالتعاون مع الوزارات المعنية، تهيئ النشء لحسن استخدام موارد الدولة الاقتصادية والسياحية والطبيعية، وحسن التعامل مع الخدمات على اختلاف أنواعها، خاصة خدمات السياحة والترفيه التى يقدمها القطاع الخاص والعام والحكومى، والتى يلعب سلوك المستهلكين فيها دورا غاية فى الأهمية، فسلوك الفرد إن كان سلبيا لا يؤثر فقط على مقدم الخدمة وقراراته المستقبلية لتخصيص الموارد، بل يؤثر بشكل مباشر على قرارات سائر المستهلكين، بما يؤدى إلى خسائر مضاعفة، ويمكن أن يتفرغ بعض زملائنا الاقتصاديين لحساب ما يمكن أن نسميه «مضاعف الاستهلاك السلوكى» لخدمات السياحة والترفيه.
المناطق الاقتصادية السياحية يمكن أن تقع داخل منطقة اقتصادية أخرى أو داخل مدينة أو محافظة أو حى سكنى.. لكن حدودا افتراضية ترسمها المزايا السياحية الخاصة لتلك المنطقة هى التى تؤسس لإقامتها وتبرر وجودها. الهدف من تلك المناطق ليس خلق كنتونات مستقلة وجيوب داخل الدولة.. بل على العكس، فالهدف الأسمى هو أن تذوب الحدود الفاصلة بين تلك المناطق السياحية مع الوقت، وتصبح السلوكيات الراقية، والأنظمة المنضبطة هى النمط العام السائد فى كل ربوع مصر التى أراها منطقة اقتصادية سياحية كبيرة.