راح السائق يسرد على مسامعنا حكاية وراء أخرى وواقعة تلو واقعة، ونحن ننصت فى صمت تام، كما لو أن على رءوسنا الطير، ما أن ينتهى من واحدة حتى يتبعها بثانية ثم ثالثة وعاشرة. اعتزم الرجل تسليتنا طيلة الطريق إلى معبدكوم أمبو، ولم يكن المسار الذى سلكه ممهدًا ولا متمتعًا بجمال الطبيعة، فلم يشغلنا عن متابعة حديثه شىءٌ.
حاز انتباهنا كاملا بينما عاونه المرشد السياحى الذى احتل المقعد الأماميّ؛ يضيف جملة أو يكمل عبارة أو ينبه إلى شىء فات محدثنا أو اختلط عليه. كان السائق يتكلم ويتكلم وتبث عباراته ألمًا كبيرًا ربما عن غير قصد، بينما وجهه يظهر لنا فى المرآة؛ ضحوكًا لكنه ليس رائقًا، لامع العينين لكنه يحمل فيهما همًا وضيقًا، هادئًا مستكينًا لكنه مقهورٌ. واصل الكلام فيما انطباعاتنا مختنقة وملامحنا مَدهوشة مُستنكرة لما يقول، وقد أطبق علينا خرسٌ مُفاجئ؛ كانت حكاياته حسبما أكد حقيقية، جرت ولا تزال تجرى على الأرض، وكلها بلا استثناء مصائب تستحق البكاء.
***
تصورت أنه يبالغ ولو قليلا فيما ذكر مِن تدنّى الأحوال، وأن مُرشِدنا يشاركه المرثية مُجامَلة لا أكثر، صحيح أننى عاينت على الطبيعة شيئًا مما قال، لكننى لم أر فعلا مِن أفعال الاعتراض يقوم به الأهالى طيلة وجودى فى المكان، ولا حتى سمعت عن صورة مِن صور الاحتجاج؛ تصاعدت أو تم قمعها مبكرًا. الحياة تسير من حولنا هادئة رتيبة، لا شعور بأن الأجواء معبأة ولا بأن الغيوم تتكاثفُ وتُلَبِّدُ السماءَ. يسير الحديث فى وادٍ وأصحابه فى وادٍ آخر، بعيد، يعددون صورًا مِن الإهمال والفساد وانتهاك الحقوق، ولا يبدون ميلا للتحرك ضدها ولو قيد أنملة.
ابتسامة طيبة وحال استسلام غريبة تعُمّان ناسَ أسوان بلا استثناء، يواجهون بهما أزماتهم؛ صغرت أو كبرت. لمست بنفسى علامات الرضاء بالواقع المؤلم فى أغلب مَن التقيت؛ مِن سائق الميكروباص الكهل، إلى المرشد السياحيّ الشاب، إلى نادل المطعم متوسط العمر، ومِن بائع عصير القصب مُتواضِع الشأن، إلى صانع المجوهرات الفاخرة الذى ورث عن جده وأبيه الحرفة.
***
تذكرت والسائق يحكى ويستفيض، صباحًا داكنًا من صباحات الرحلة، حين وقف نزيل يصرخ فى وجه نادل لأنه لا يجد «توست» فى المطعم، كل شيء موجود إلا «التوست». هل هناك مطعم فى فندق خمس نجوم بلا توست؟ صرخ النزيل وسط الصالة الواسعة. حاول النادل أن يستدرك غضبه بأية وسيلة، سأله عما يرضيه فى التو واللحظة، قال النزيل: عايز حاجات كتير مش هاكل العيش ومش عايز أفطر كمان وعايز المدير وعايز أمشى من الفندق خالص. كنا نعلم جميعًا أن النادل لا يملك ما يسترضى به النزيل، ولو طال لزرع القمح وخبز «التوست» على الفور، لكن نسبة الإشغال الضعيفة لا تسمح بتلبية الطلبات جميع، والفندق فتح أبوابه بعد طول إغلاق، والنزيل لا يرى الذل والاستسلام، لا يرى إلا رغبته فى تناول التوست. كنا مستاءين بينما ظل النادل مُستسلمًا لا حول له ولا قوة أمام تطاول الأخير وفجاجة أسلوبه. كان استسلامه مضاعفًا وكذلك كانت مهانته؛ فالحاجة قد تورث الذُلَّ.
تذكرت أيضًا الجولة النهارية التى صادفت خلالها صاحب المتجر الأنيق، وقد أخذ يتحدث بمرارة عن تجار يأتون من بعض الدول الآسيوية فيجمعون ما عنَّ لهم من أحجار كريمة ويرحلون بها إلى بلدانهم، ثم يعودون بعد حين ليغرقوا أسواقنا بأحجار مُقلَّدة لا قيمة لها، بينما المشترى يجهل فى العادة الفارق ويُخدع ببساطة، إلا من كان لديه علم وثيق. لا قوانين ولا قيود ولا أى نوع مِن الحماية يحظى بها العاملون فى مهنة تشكيل الأحجار الكريمة. استفاض الرجل فى الشكوى، سألته عما فعل إزاء الأمر فقال إنه سلم أمره إلى الله ووضع فيه الرجاء.
***
قبل الوصول إلى كوم أمبو انكسر حاجز الصمت وتساءلت ومن معى عن ردّ الفعل على ما سمعنا، عن شكوى رسمية قدمها الناس أو اعتصام أو حتى وقفة رمزية. عَلَّقَ السائق على استفساراتنا: حسبى الله هو نعم الوكيل ثم اعتذر عن وجع الرأس الذى تصور أنه أصابنا به، بينما أَسَرَّ لنا المُرشِد بألا فائدة وأن الفساد الذى كان قاصرًا على فئة بعينها فيما مضى، صار الآن متفشيًا بين الجميع، ذكر ببساطة أنه لا يتكلم وأن أهل أسوان جميعهم لا يتكلمون ولا يعترضون: «أملنا فى ربنا، ربنا يصلح الأحوال».
ما رأيت فى أسوان يختلف عما اعتدت رؤيته هنا وهناك، لا صوت عالٍ ولا نبرات حادة ولا ضيق فى الصدور ولم تكن تلك ملاحظتى وحدى إنما أفصح بها أيضًا بعض رفقتى. لاح المشهد الكليّ وكأن عقارًا مهدئًا قد انتشر فى الهواء، بحيث جعل الناس ودعاءً مستكينين، لا يبادرون ولا يرفضون ولا يبدون نوايا تمرد على الأوضاع، يدفعون دومًا إلى زائريهم بابتسامة مُسَكِّنة، تمنحها أسنانهم ــ البيضاء كما الحليب ــ صفاءً غير معهود. يظهرون مسالمين مستسلمين، والاستسلام يجلب فى العادة طمأنينة؛ فلا توتر اتجاه فعل ما ولا خوف من عاقبة رد فعل، لكن المستسلمين لا يمكنهم للأسف تغيير واقعهم.
***
عن نفسى أظن فى أهل أسوان صبرًا وحلمًا عظيمين، قد يخطئ تفسيرهما مَن لم يمتدّ به المقامُ بينهم، وفى هذا يقول المأثور: اتق شرَّ الحليمِ إذا غضب.